بقلم.. سليم عزوز
لم يكن اعتقال الكاتب الصحفي عامر عبد المنعم، إلا إجراء كاشفاً عن حملة من الاعتقالات واسعة، طالت من سبق ولم يسبق اعتقالهم، وطالت كذلك من كانوا قد قاموا بتسويات أمنية، جعلتهم “في الأمان” على مدى سبع سنوات هي عمر الانقلاب العسكري، ولم يمارسوا نشاطاً، أو يخلوا باتفاق، فماذا هناك؟!
فليس سراً أن حملة الاعتقالات التي قامت بها سلطة الانقلاب في السابق، لم تشمل كل الإخوان المسلمين، وإن شملت كثيرين لا ينتمون إليهم، سواء شاركوا في المظاهرات ضد الانقلاب العسكري في بدايته، أو أخذوا بالغلط، والذين تتراوح أعدادهم في بعض التقديرات بين أربعين وستين ألف معتقل. وأعداد الإخوان بكامل تنويعاتهم تتجاوز هذا الرقم بكثير، سواء كانوا اخواناً عاملين، أو محبين ونحو ذلك، والذين تصل بهم بعض التقديرات إلى مليوني عضو، فلا توجد سجوناً تكفي لهذا العدد.
وبحسب عبد الفتاح السيسي في باريس، فإن السجون المصرية لا تتسع سوى لخمسين ألف سجين، وذلك في معرض تكذيبه للأعداد المعلنة من قبل المنظمات الحقوقية، ودون أن ينتبه إلى أنه بذلك إنما “يبصم” الموافقة على الدعاية الرائجة عن تكدس السجون بأعداد فوق طاقتها، فكان كمن يخرج من حفرة ليهوي في بئر، فالتكذيب يلزمه بأن يذكر أعداد المعتقلين منذ انقلابه على خلفية قضايا سياسية!
ولأنه ليس في قدرة أي جهاز أمني أن يعتقل جميع الإخوان، فحضرت الحنكة الأمنية، فلم يتم اعتقال الجميع، ولأن ليس كل الإخوان كانوا فاعلين أو مؤثرين، فلا مانع من تركهم تحت عين وبصر الأجهزة الأمنية، ولا يخلو الأمر من استدعاءات، للتأكيد على هذه التفاهمات، أيضاً لتوصيل الرسائل التي تفيد بأنهم تحت بصر وسمع الأجهزة الأمنية.
وعموما، فإن تقديرات الأمن عن أعداد الإخوان الفاعلين منذ السنة الأولى بعد الثورة هي في حدود ثلاثة آلاف في جميع المحافظات، بحسب وزير الداخلية آنذاك عندما جمعه لقاء بالمشير محمد حسين طنطاوي، وكمال الجنزوري رئيس الوزراء، وعدد من أعضاء المجلس العسكري، وهو الاجتماع الذي نقلنا ما دار فيه في مقال سابق هنا، وكان هذا في وقت إجراء الانتخابات الرئاسية. وطرح المشير على الحاضرين سؤالاً: ماذا لو فاز الإخوان؟ فانبرى الوزير ليقدم خدماته، وكان مع اتجاه تزوير الانتخابات، ويمكن شل حركة الجماعة باعتقال هذا العدد المرصود من قبل الأجهزة الأمنية، فيفقد التنظيم القدرة على الحركة والتصرف!
وإذ تجاوز عدد المعتقلين بعد الانقلاب العسكري أكثر من عشرة أضعاف هذا العدد المقدر أمنياً، فلا معنى لحملة اعتقالات واسعة، لا سيما وأنه منذ خمس سنوات قد توقف الحراك تماماً، والذي كان يدعو لعودة الشرعية، وفقدت الدعوة الى الحراك بريقها بعد وفاة رمز هذه الشرعية وذروة سنامها. ولم يشارك الإخوان بعد هذا التاريخ في أي حراك آخر، مثل حراك الدفاع عن التراب الوطني، أو دعوات المقاول محمد علي في عامين متتاليين، أو الحراك العمالي الذي تشهده بعض الشركات التاريخية!
والحال كذلك، فعندما تبدأ حملة اعتقالات جديدة وواسعة، وتمتد إلى غير الإخوان مثل الزميل عامر عبد المنعم، والذي لم يسبق اعتقاله، فإن سؤال ماذا هناك؟ تكون له وجاهته!
حملة الاعتقالات الجديدة لم تقتصر على محافظة واحدة في الإقليم المصري، وإلا لكان تصرفاً يخص مسؤولا أمني في المحافظة، ولكنها حملة واسعة في عدد من المحافظات. والذي يزيد الأمر ارتباكاً، هي هذه الضغوط الخارجية، والتي نتج عنها الإفراج بالجملة كما حدث في مرتين، فضلاً عن الإفراج كرهاً عن قيادات “المبادرة المصرية”! الأمر الذي دفع البعض للقول بأنها خطوة من النظام العسكري لاعتقال أكبر عدد ليفرج عنهم، فيبدو مع تولي الرئيس الأمريكي الجديد الحكم وقد أفرج عن أعداد كبيرة، ممن لا خوف منهم، دون أن يضطر لاستيفاء الشكل بالإفراج عن الذين يعتقلهم ويراهم الأخطر والأكثر تأثيراً.
ولست مع هذا التفسير، لأنه هنا يعتقل من تيار يبدو أنه خارج الضغوط الأجنبية، ويستطيع ببساطة أن يقول إنهم ينتمون لتيار يمارس الإرهاب، فضلاً عن أن الضغوط الخارجية لن ينطلي عليها أعداد المفرج عنهم، وقد عرفت القوائم، مثل القائمة التي صدرت من البرلمان الأوروبي، بشكل يوحي بأنهم يعرفون معتقلين بالاسم يستهدفونهم بهذه الضغوط. وإذا كانت القائمة تشتمل على عدد قليل من النساء، فإن الضغوط في المستقبل ستمارس من أجل الافراج عن النساء جميعهن بصرف النظر عن انتماءاتهن السياسية. وإذا كانت القائمة لم تشمل كل المعتقلين من التيار المدني، مثل الدكتور حازم حسني، ويحيى حسين عبد الهادي، فسوف يكونون بالاسم من المطلوب الإفراج عنهم، ولن يقبل الخارج الالتفاف على ذلك بالإعلان عن الإفراج عن ألف معتقل مرة واحدة مثلاً!
إذاً ماذا هناك؟!
هل يخشى النظام العسكري في مصر من الثورة؟!
هذا سؤال باعث على الضحك ولا شك، في ظل حالة الإحباط التي يعيش فيها المصريون، وإحساسهم بأن السيسي قد تمكّن، وعند الحديث عن الضغوط في بايدن فإن هناك من هم جاهزون لنشر روح التشاؤم بأن الغرب ليس مشغولاً إلا بمصالحه. وهذا صحيح، لكن ما هي المصلحة التي يمثلها السيسي له؟!
في تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية أن هناك العديد من الأسباب التي تدفع للاعتقاد بأن موجة جديدة من الثورات العربية ستنفجر قريبا، وأن هناك شبه إجماع في الأوساط الاستخبارية الإسرائيلية على أن الربيع العربي تراجع لكنه ما زال قائما، وأن الثورات قد تندلع بشكل مفاجئ وبقوة وزخم أكبر بكثير مما كانت عليه في نهاية 2010، على النحو الذي نشره موقع “ولاه” الإسرائيلي!
وإذا كان مثلي يستبعد هذا، فإن من “لسعته الشوربة ينفخ في الزبادي”، فما قيمة توقعاتي لدى الأجهزة الأمنية، فلم أتوقع نجاح الثورة بينما كنت مشاركاً فيها، وفي اليوم الأول لها قلت لو أن مظاهراتنا نجحت في إجبار مبارك على عزل وزير الداخلية، فهذا إنجاز كبير. وبالمناسبة، ليس عبد المنعم سعيد المقرب من مجموعة مبارك هو فقط الذي كتب أن مصر ليست تونس، أنا أيضاً كتبت هذا!
ولم تفاجئني الثورة المصرية وحدي، لكنها فاجأت المخابرات الأمريكية نفسها، ومن هنا فإن النظام العسكري يعمل حسابه لأسوأ الاحتمالات، لا سيما إذا كانت المرحلة التي كان يمكن أن يمارس فيها القمع ضد أي مظاهرات بدون سقف قد ولت بسقوط ترامب!
ليطرح سؤال آخر نفسه: وماذا يخيف في أشخاص بعيدين عن الفعل السياسي، وبعضهم بينهم وبين الأمن تفاهمات؟!
الحقيقة أن تفاهمات المضطر لا قيمة لها عند العقليات الأمنية، لأنه إذا نشبت ثورة فلن تلزم هذه التفاهمات أحداً، وقد كانت هناك تفاهمات مع الجماعة الإسلامية، لكن عندما قامت الثورة، كانوا في قلب ميدان التحرير!
بل إن البلطجية الذين كانوا من أدوات القمع الأمني للتصدي للمظاهرات، وكانوا في يوم جمعة الغضب ضمن الحشود الأمنية، عندما هُزم الأمن استداروا لينتقموا منه، ووقائع حرق أقسام الشرطة والاعتداء على الضباط مثل مأمور أحد أقسام الشرطة الذي أجبروه على الخروج من القسم بملابسه الداخلية، كان بفعل البلطجية لا الثوار!
ويخطئ الحكم العسكري إن تصور أن من شهدوا ثورة يناير وشاركوا فيها بهمّة يمكن أن يكونوا هم دعاة الثورة القادمة، إن صدقت توقعات الموساد، وما أظنها قائمة على أساس متين، فمن هُزم لا يصلح للقيادة أو للدعوة للثورة، وإن كان لهم من دور فسيكون لنشر الإحباط!
وقد رأينا هذا عند كل دعوة جديدة للثورة في مصر، بل وفي عواصم عربية أخرى، فقبل أسابيع، وأيام، من سقوط نظام البشير في السودان، كانت تجمعني مناقشات مستفيضة بمثقفين سودانيين، بعضهم يؤيده وبعضهم يعارضه، ومع هذا كان الإجماع منعقدا على أن البشير باق إلى أن تقوم قيامته، فقد كانوا يقيسون قوة المعارضة على الخصوم التاريخيين، والذين كانوا في هزال لا تخطئه عين!
وعندما خرجت المظاهرات في الجزائر فإن أصدقاءنا الذين عاصروا العشرية السوداء كانوا يعتبرونها تصرفا مجنونا من شباب لا يعرف حدود قدرته، والقدرة غير المتناهية للجيش ولجهاز الاستخبارات. كانوا ينشرون اليأس والإحباط والكآبة!
إن على النظام العسكري في مصر أن يدرك أنه بحملة اعتقالاته الواسعة لن يحبط الثورة القادمة، إن كانت ثمة ثورة في الطريق، كما يعتقد الموساد ولا أجاريه في ذلك.
فالثورات تحتاج إلى قلب “لا داب، ولا حب، ولا انجرح ولا شاف حرمان”. وعندما يوجد سيكون من المناسب أن نردد مع الست، حيث لا ست غير الست:
فات الميعاد!