غيب الاحتلال الصهيوني القرارات الدولية بفرضه سياسة الأمر الواقع على الفلسطينيين أصحاب الأرض، واستباحته للدم الفلسطيني، وخرقه الفاضح لكافة القوانين والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وكان الطفل محمد الدرة أيقونة فلسطينية هزت ضمير العالم عام 2000 بعد اندلاع انتفاضة الأقصى، وكشفت عن مدى جرم ووحشية الاحتلال الذي يطلق الرصاص بدم بارد على الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال.
توالت بعدها المجازر جنبا إلى جنب الصمت الدولي وقليل من الجعجعة العربية الجوفاء، في وقت يقف فيه الفلسطينيون رجالا ونساء بمن فيهم الأطفال عرايا الصدور أمام الرصاص، كل إمكانياتهم قليل من الحجارة وكثير من الصمود، بعد ذلك توالت المجازر والقصف على غزه التي كان يحاصرها مبارك، فلما خلعه المصريون في ثورة 25 يناير 2011، سقط الحصار بل وسقطت البوابات في ظل حكم الرئيس محمد مرسي، أول رئيس مدني للبلاد.
تنفس الفلسطينيون الصعداء وشعروا أن مصر أخيرا عادت لمسارها الإسلامي والعروبي، وأن دماء الدرة وبقية دماء الشهداء سيتم الثأر لها، وتكلل ذلك بإرسال الرئيس مرسي رئيس وزرائه قنديل إلى غزة، إلا أن سرعان ما تداركت إسرائيل ومعها واشنطن وحلفاؤها العرب، نعم حلفاؤها العرب ذلك الخطر وقاموا بدعم انقلاب السفيه عبد الفتاح السيسي، وعاد الحصار وكأن شيئا لم يكن.
جرائم يدعمها السيسي
وتتواصل جرائم إسرائيل المستمرة بحق الفلسطينيين المدنيين العزل، وبينما كان الطفل محمد الدرة يسير مع والده في شارع صلاح الدين بقطاع غزة، فوجئا بوقوعهما تحت نيران إسرائيلية، فحاولا الاختباء خلف برميل إسمنتي، وذلك أيام انتفاضة الأقصى التي اندلعت عام 2000.
حاول الأب جمال يائسا أن يحمي ابنه بكل قواه، لكن الرصاص اخترق يد الوالد اليمنى، ثم أصيب محمد بأول طلقة في رجله اليمنى وصرخ: “أصابوني”، ليفاجأ الأب بعد ذلك بخروج الرصاص من ظهر ابنه الصغير محمد، الذي ردد: “اطمئن يا أبي أنا بخير لا تخف منهم”، قبل أن يرقد الصبي شهيدا على ساق أبيه، في مشهد أبكى البشرية وهز ضمائر الإنسانية، إلا ضمائر “عصابة الخليج” التي تدعم تل أبيب وتدعم السفيه السيسي في نفس الوقت.
ويعد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين أسوأ احتلال عرفه التاريخ الحديث، وزاد الدعم الأمريكي والغربي والخليجي المصري في تمرد إسرائيل على قرارات الأمم المتحدة، ورفضها الانصياع لهذه القرارات، وقد استمرت في مشروعها الاستيطاني والتهويدي، غير عابئة بالقرارات التي تصدر عن الأمم المتحدة بحقها, وبدلا من وضع حد لتمردها وجموحها تم مكافئتها من قبل إدارة ترمب، بالاعتراف في القدس المحتلة عاصمة للكيان الإسرائيلي، ونقل السفارة الأمريكية للقدس، وهذا دليل على الدعم والغطاء الأمريكي للجرائم الإسرائيلية.
قتلوه مع إسرائيل
في الحقيقة أن الذي قتل “الدرة” رصاص إسرائيل، لكن من أعطاها الضوء الأخضر أمريكا والغرب، ومن تكلف ثمن الرصاص عصابة الخليج السعودية والإمارات والبحرين وفي ذيلهم عسكر مصر، لحظة استشهاد محمد الدرة يوم 30 سبتمبر 2000 بين ذراعي والده، نقلتها لأكثر من دقيقة كاميرا الصحفي شارل أندرلان في قناة فرانس 2 التلفزيونية عام 2000، وأظهرت كيف أن الوالد كان يطلب من مطلقي النيران التوقف، لكن دون جدوى، إذ فوجئ بابنه يسقط شهيدا.
حاول الاحتلال وجهات يهودية متطرفة التنصل من الجريمة بإلقاء اللوم على المقاومة الفلسطينية، والادعاء أن الطفل محمد قتله فلسطينيون لتشويه صورة جيش الاحتلال الإسرائيلي لدى الرأي العام الدولي، غير أن الصحفي أندرلان أورد في كتابه “موت طفل” اعتراف قائد العمليات في الجيش الإسرائيلي جيورا عيلاد، الذي صرح لهيئة الإذاعة البريطانية في الثالث من أكتوبر 2000، بأن “الطلقات جاءت على ما يبدو من الجنود الإسرائيليين”.
شكلت حادثة استشهاد الطفل محمد صدمة كبيرة، ليس فقط لوالده الذي كان معه وإنما لوالدته وعائلته، لكن الله سبحانه وتعالى عوضهم عن الشهيد بطفل آخر أطلق عليه اسم “محمد” تيمنا بأخيه، كما أصبح الطفل محمد أيقونة الانتفاضة الفلسطينية ومُلهمها، وصورتها الإنسانية في مشهد لن ينساه العالم.
واندلعت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الثانية يوم 28 من سبتمبر 2000، عقب اقتحام رئيس وزراء العدو الإسرائيلي السابق أرييل شارون المسجد الأقصى، ومعه قوات كبيرة من الجيش والشرطة، وتجوّل شارون آنذاك في ساحات المسجد، وقال إن “الحرم القدسي” سيبقى منطقة إسرائيلية، وهو ما أثار استفزاز الفلسطينيين، فاندلعت المواجهات بين المصلين والجنود الإسرائيليين.
كان سيصل عمر محمد الدرة الـ 30 عامًا الآن، إلا أنا طلقات الجنود الإسرائيليين اصطادته قبل 18 عامًا، على مشاهد ومسامع العالم بأسره، فانطلق صراخ الأب: “مات الولد مات” بعد أن حاول حمايته بجسده خلف برميل إسمنتي متهالك من مطر الرصاص، ولم يعد نادرا أن يصادف المتابع لمواقع التواصل الاجتماعي فيديو لملك أو أمير عربي أو جنرال جاء على ظهر دبابة انقلاب يتحدث عن أهمية التطبيع مع إسرائيل، أو يدافع عن مواقف إسرائيل في المنطقة.. فهل عرف العالم الآن من قتل الدرة؟