لماذا تحولت مصر من مصدّر إلى مستورد للغاز الطبيعي؟ ( تسلسل زمني وتحليل معمق)

لماذا تحولت مصر من مصدّر إلى مستورد للغاز الطبيعي؟
(أو: لماذا تفيد المعرفة المعمقة في تطوير الوعي الجمعي)

*** تسلسل زمني وتحليل معمق ***

كي نقرأ الوضع في شرق المتوسط بشكل أفضل ونفهم سياق الأحداث، علينا أن نعي التغير في المشهد الطاقوي في منطقة شرق المتوسط في العقد الأخير (2009 حتى الآن)، وما الذي حدث لتتحول مصر من مصدّر إلى “مستورد” للغاز الطبيعي، ولتصبح إسرائيل مصدّراً للغاز بدل مستورد. فالأمر لا يستدعي اتهامات بالمؤامرة أو حتى سوء الإدارة. إذا أردنا أن نلوم أحداً، فلنلم الجغرافيا!!

دعونا نتكلم بالحقائق المدعّمة:

– قبل ثورة يناير عام 2011، كانت مصر تصدّر الغاز لإسرائيل باتفاقية بين الطرفين عبر خط أنابيب (EMG)، الذي يمر في شبه جزيرة سيناء ومنه يتفرع إلى فرعين: فرع بري يصل إلى الأردن وسوريا ولبنان، وفرع بحري إلى إسرائيل.
– في عام 2009، اكتشفت إسرائيل حقلاً للغاز الطبيعي في مياهها الإقليمية أسمته “تمار”، يحوي 318 مليار متر مكعب (تقديرياً)، ولكنه لم يبدأ العمل التجاري (ضخ الغاز وتصديره) إلا في مارس عام 2013:
https://cutt.ly/cruRJFJ
– بعد اكتشاف “تمار” بعام واحد، أي عام 2010، اكتشفت إسرائيل حقلاً أكبر من “تمار” وأسمته “لفياثان” (الكائن الأسطوري البحري العملاق)، يحوي تقريباً ضعف ما يحتويه حقل “تمار”، وتحديداً 605 مليارات متر مكعب، ولكنه بقي قيد التطوير حتى 30 ديسمبر 2019، عندما بدأ استخراج الغاز فيه رسمياً:
https://cutt.ly/qruRZwL
– بعد اكتشاف “لفياثان” بعام أيضاً، أي 2011، اكتشفت قبرص حقل “أفروديت”، الذي يحوي ما بين 129 و140 مليار متر مكعب، وهو ما يزال قيد التطوير:
https://cutt.ly/GruRCd8
– حقول الغاز المكتشفة حديثاً تكفي احتياجات إسرائيل لخمسين عاماً قادمة، واحتياجات قبرص لمائة عام قادمة. لذلك كان “التصدير” الإجابة الطبيعية على سؤال: ماذا نفعل بكل هذا الغاز؟ لكن لمن؟ الخيار الأول كان أوروبا.
– مشكلة التصدير لأوروبا هي مرور الغاز عبر الأراضي التركية، إلا أن ذلك غير مقبول بالنسبة لقبرص، التي تزاحمها تركيا على حصتها من حقل “أفروديت” لصالح “جمهورية قبرص الشمالية”، التي لا تعترف بشرعيتها سوى تركيا. لذلك، مرور الغاز القبرصي والإسرائيلي عبر تركيا لم يعد خياراً متاحاً. 
– خط (EastMed) الذي أبرمت اتفاقية لبنائه بين إسرائيل واليونان وقبرص (مزيد عن ذلك لاحقاً)، سيكلف حوالي سبعة مليارات دولار وسيصبح متاحاً في أواسط العقد الحالي (2024-2025). كما أن بناء مصنع لإسالة الغاز (LNG) الذي يتم تصديره سيكلف حوالي عشرة مليارات دولار إضافية، وهذا يتطلب اكتشافات أكبر من الموجودة حالياً لتبريره من الناحية المالية.
– إذاً، الحل الوحيد المتاح حالياً هو مصر، وتحديداً خط أنابيب (EMG) ومصنعي إدكو ودمياط القائمين لإسالة الغاز.
– إمدادات الغاز المصرية لإسرائيل توقفت بفعل الهجمات الإرهابية على خط (EMG) في سيناء عام 2012، ناهيك عن أن حاجة السوق المصري للغاز ازدادت بشكل كبير في السنوات الماضية، ما دفع بمصر آنذاك لتفضيل السوق المحلية على التصدير:
https://cutt.ly/WruR2gT
– بسبب هذه الهجمات الإرهابية، اضطرت مصر لدفع تعويض بقيمة 500 مليون دولار لسلطة الطاقة الإسرائيلية بسبب الإخلال بشروط العقد الموقع بينهما على تصدير الغاز، وبموجب الضمانات المصرية في العقد (العقد موقع منذ عام 2003 في عهد حسني مبارك):
https://cutt.ly/SruR80Z
– بدأت المفاوضات بين إسرائيل ومصر لـ”عكس” اتجاه التصدير في خط (EMG) في نوفمبر 2015، وذلك بهدف سدّ جزء من احتياجات السوق المصرية المتنامية وتصدير الباقي إلى أوروبا عبر الموانئ المصرية (بعد الإسالة في مصنعي إدكو ودمياط).

* لماذا رضيت مصر بالصفقة بعد أن كانت تصدر الغاز لإسرائيل؟ هل تنازلت عن حقها؟ هل هي مؤامرة على مقدرات الشعب؟ هل هذا سوء إدارة من الحكومة الحالية؟
1. السوق المصرية لم تعد مكتفية من الإنتاج المحلي، والصفقة الإسرائيلية/القبرصية مغرية بسبب السعر المنافس.
2. جزء من تكلفة الغاز المستورد من إسرائيل وقبرص ستخففها الرسوم المفروضة على نقل وإسالة الغاز الإسرائيلي والقبرصي الذي سيتم تصديره إلى أوروبا، لاسيما وأن مصر تمتلك المصنعين الوحيدين في المنطقة لإسالة الغاز.

– اكتشاف حقل “ظهر” في المياه المصرية في مايو 2015، والذي يعتبر أكبر حقل غاز في البحر المتوسط حتى الآن، لم يغير من هذه المعادلة كثيراً: فرغم أن الحقل يحتوي على 850 مليار متر مكعب (تقديرياً)، إلا أن أغلب إنتاجه سيذهب للإيفاء بالطلب المحلي المتزايد بسرعة:
https://cutt.ly/AruTfn2
– هناك شائعات تحيط بحقل “نور” المصري، والذي ترفض القاهرة وشركة “إني” الإيطالية، صاحبة امتياز التنقيب، التعليق على حجمه، وإن كانت تلك الشائعات تشير إلى كونه أكبر حتى من حقل “ظهر”، وهذا قد يدفع مصر إلى التفكير في إعادة التفاوض مع إسرائيل وقبرص على اتفاقية استيراد الغاز. لكن ذلك لن يحدث قريباً، لأن اكتشاف الحقل تعقبه سنوات من التطوير والاختبار قبل تهيئته للربط بشبكات النقل والإسالة:
https://cutt.ly/wruTzo9

والآن إلى التطورات الراهنة، لاسيما اتفاقية بناء خط (EastMed):
– ما تنشره منصات وصفحات ووكالات إعلامية من أن اتفاقية بناء (EastMed) بين إسرائيل وقبرص واليونان “هدف سياسي واقتصادي في شباك مصر” ليس صحيحاً تماماً. الهدف الحقيقي هو في مرمى أنقرة، التي تعتبر نقطة عبور مركزية للغاز الروسي المتوجه إلى أوروبا وتستفيد منه مالياً بفعل رسوم النقل. هذه الإمدادات ستقلّ بشكل كبير (ومعها أوراق الضغط والربح التركية) بعد بناء خط شرق المتوسط (وخط نوردستريم 2 الذي يمر عبر أوكرانيا وبحر البلطيق وانتهى العمل به عام 2019):
https://cutt.ly/jruFcv4
– أيضاً هناك نقطة ينساها كثيرون عند تحليل الموقف المصري من خط (EastMed)، وهي تصريحات وزير البترول والثروة المعدنية المصري، طارق الملا، لوكالة الأنباء القبرصية في فبراير 2019، بأن مصر ليست مهتمة بالمشروع الإسرائيلي-اليوناني-القبرصي، إلا أنه عاد بتصريحات مغايرة في مارس 2019 خلال مؤتمر (CERAWeek 2019) للطاقة في هيوستون الأمريكية، وقال إن مصر ستدعم المشروع (فيديو المقابلة – 18 دقيقة):
https://cutt.ly/oruFGKv
– هذا التغير في التصريحات في ظرف شهر واحد يشير -بحسب الخبراء- إلى أن لمصر خططها الخاصة بها، وتحديداً بناء خط نقل جديد مخصص لحقل “ظهر” العملاق، وربما حقل “نور” الأكبر منه، بالإضافة إلى عمليات التنقيب التي ستحصل في شمال مراقيا وشمال شرق العامرية على سواحل مصر (حصلت على الامتياز شركة إكسون موبيل الأمريكية):
https://cutt.ly/iruFZqp

* لحظة… لكن ألا يعني الخط الجديد تجاوز مصر كناقل للغازين الإسرائيلي والقبرصي وكمحتكر لإسالة الغاز قبل تصديره إلى أوروبا؟ ألا يعني ذلك خسارة مصر لرسوم نقل وإسالة الغاز؟

– نعم ولا. كما ذكرت مسبقاً، فإن حقل “ظهر” عندما يصل إلى مرحلة الاستغلال الكامل، وحقل “نور” لو تم تطويره، ستعوم المنطقة بأكملها رسمياً على محيط من الغاز الطبيعي. خط (EMG) ومصانع الإسالة في إدكو ودمياط لن تكون قادرة على التعامل مع كل هذه الكميات من الغاز، ما يعني أن الإمدادات ستبطئ.
– خط (EastMed) لن يكون فقط للغاز القبرصي والإسرائيلي، بل ربما أيضاً ينقل الغاز المصري المكتشف من حقل “نور”، لو صحّت الشائعات وانتزع لقب أكبر حقل غاز طبيعي في البحر المتوسط من “ظهر”. وقت حدوث ذلك، فإن مصر إما أن تستثمر مليارات الدولارات في توسيع الشبكة القومية وربما بناء مصنع إسالة ثالث للتعامل مع الكميات المهولة، أو أن تدفع رسوماً لإسرائيل وقبرص من أجل نقل غازها عبر الأنبوب الجديد، إلى جانب ما يُنقل لها عبر خط (EMG).
– بهذه الطريقة، ستوفر مصر كلفة المشاركة في بناء خط (EastMed) الجديد، التي تبلغ سبعة مليارات دولار، وستوفر مليارات أخرى لتوسعة محتملة للشبكة القومية ومصنع إسالة ثالث، وتستثمرها في أوجه أخرى داخل البلد، أو حتى في الخط الناقل المخصص لحقل “ظهر” و”نور” وغيرها.

في النهاية، دعوني أترك كلمة لكم هنا:
الحرب خدعة – خدعة بكل أوجهها. دول كثيرة تمتلك وتموّل منصات إعلامية وإخبارية وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، وتتعامل مثل البقال في شارع حارتكم: عندما تنتشر إشاعات عن قرب افتتاح محل بقالة جديد منافس لبضاعتها الوحيدة في سوق الحارة، فإن صاحب المحل القديم سيأمر أولاده وأفراد عائلته والمنتفعين من محله بنشر إشاعات عن سوء بضاعة المحل الجديد وجهل صاحب المحل الجديد بإدارته، وربما يطعنون بأخلاقه وأخلاق آل بيته لتخريب سمعته. ولو تجاوز صاحب المحل الجديد كل ذلك بأعجوبة وأصر على افتتاح المحل، سيلجأ صاحب المحل القديم إلى تخفيض سعره حتى إلى ما هو دون هامش الربح لـ”إخراج” المحل الجديد من السوق قبل أن يدرّ ربحاً.

كذلك الحال في المشهد الاقتصادي والجيوستراتيجي الإقليمي. ابحثوا عن الخاسر الأكبر من تحول منطقة شرق المتوسط إلى مركز جديد للغاز الطبيعي وأحد أهم موردي الغاز لأوروبا… وستعرفون لماذا فجأة بدأنا نقرأ ونسمع ونشاهد أخباراً وتحليلات متشابهة في نصها وتركيبها ورسالتها.

والله ولي التوفيق

إذا استفدت منه وأردت إفادة الآخرين، لا تتردد في مشاركته حتى نرفع الوعي ونزيد من مستوى المعرفة ونحارب الشائعات. شكراً.

(الصور لمصنع إدكو لإسالة الغاز ولخارطة الحقول المكتشفة في شرق المتوسط)


تنويه: مقال طويل يمكنكم الاحتفاظ به كمرجع للرد على أسئلة عديدة في مواقع التواصل الاجتماعي:

#المعرفة_قوة #شرق_المتوسط #صفقات_الغاز