بقلم: فهمي هويدي
أرشح فيلم هروب وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى للفوز بالجائزة الأولى فى مهرجان أفلام الموسم الهابطة. ففكرته مستهلكة والسيناريو ردىء والإخراج أردأ. وليس ذلك أسوأ ما فيه، لأن الأسوأ هو افتراض منتجيه أن الجمهور من البلاهة والغباء بحيث يمكن أن يتقبله ويرى فيه صدقا من أى نوع. صحيح أنه ليس أول أفلام الداخلية التى نشطت فى إنتاجها بعد ثورة ٢٠١١، ولن يكون آخرها. إلا أننى أزعم أنه من أكثرها إثارة. لأن «البطل» فى القصة هو وزير داخلية مبارك الذى ظل فى منصبه ١٤ عاما، كان خلالها هراوته الغليظة وجلاده الأكبر. وقد نسبت إليه قائمة طويلة من الجرائم التى نجحت جهود الدولة العميقة فى تبرئته منها، وان قضى بسببها أربع سنوات فى السجن قبل أن يطلق سراحه. إلا أنه أدين ومعه آخرون فى قضية الاستيلاء على أموال الوزارة. وبسببها حكم عليه بالسجن المشدد ٧ سنوات وطولب برد نحو ١٩٦ مليون جنيه كما تم تغريمه مبلغا مماثلا.
السجن طوال تلك السنوات الأربع التى قضاها الرجل وراء أسواره كان ذلك المنتجع الذى تمت فيه «استضافة» أركان النظام السابق الذى أسقطته الثورة. ورغم أن الجميع ظلوا مدللين ومنعمين طول الوقت، إلا أن اللواء العادلى كان له وضع شديد الخصوصية. إذ لم يكن ضيفا كغيره، وإنما كان «صاحب بيت». يتحرك وسط رجاله ويحظى بحفاوة من تربوا وترقوا على يديه، ذلك أن رجاله قاموا نحوه بـ«الواجب» وزيادة. إلا أن جريمة نهب أموال الداخلية التى هى بغير حساب كانت من الجسامة والتعقيد بحيث تعذر عليهم إخراجه منها، حتى إشعار آخر على الأقل. ولما صدر الحكم الأخير بسجنه سبع سنوات فى منتصف إبريل الماضى، فإن صاحبنا ظل فى بيته ووسط أسرته لم يغادره، وكانت الحجة التى قيلت فى ذلك أن ثمة استشكالا لوقف تنفيذ الحكم سينظر بعد شهر (أمس الأول الثلاثاء ١٦ مايو). وتلك ثغرة فى السيناريو جرى فيها الاستعباط، لأن معدِّيه افترضوا أن أحدا لا يعرف أن الاستشكال فى الجنايات لا يوقف التنفيذ. وبعدما مرت الأيام واقترب موعد الجلسة، نشرت بعض الصحف أن اللواء العادلى اختفى، وقيل إنه هرب. غير أن محاميه نفى ذلك وقال إنه مقيم فى بيته لكنه مريض ولن يستطيع حضور جلسة الاستشكال لأن حالته الصحية لا تسمح بالخروج، وقد يتعرض للموت فى هذه الحالة. ومن باب الإثارة ترددت شائعات بأنه أصيب بالشلل وقالت شائعات أخرى إنه فقد بصره. فى حين قالت مصادر أخرى إنه سيظهر فى الجلسة. وقبل ٢٤ ساعة من انعقادها تسلمت النيابة العامة خطابا رسميا من وزارة الداخلية يفيد أن قوة ذهبت إلى بيته لضبطه وإحضاره لتنفيذ الحكم (الصادر قبل شهر) لكنها لم تجده. وهو ما يؤكد هروبه، ولايزال البحث جاريا عنه. وذلك مشهد فى الفيلم فضح الداخلية وأساء إليها، لأنه يعنى أنها بكل امكانياتها فى الرصد والتنصت والمتابعة، غرقت فى النوم طول الشهر، وحين فتحت أعينها فى ليلة نظر الاستشكال اكتشفت أن الرجل المهم تبخر ولم يعد له وجود فى بيته. ولأن ذلك يتجاوز حدود المعقول فإنه أثار الشكوك فى أنها هى من أخفاه وأنه تحت رعاية رجاله «الأوفياء»!
الفيلم بهذه التفاصيل شاهدناه من قبل مرتين على الأقل. إحداهما فى حالة الدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء الأسبق الذى صدر ضده حكم بالسجن ٥ سنوات فى جناية للكسب غير المشروع فى شهر أغسطس عام ٢٠١٥. ثم اختفى عن الأنظار (فى الإعلام فقط) نحو ثمانية أشهر. تم خلالها ترتيب الأمر وتبرئته أمام محكمة النقض فى شهر مايو عام ٢٠١٦. الثانية حالة الدكتور محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان الأسبق الذى صدر الحكم بسجنه ٣ سنوات عام ٢٠١٥ فى جناية تربح، لكن الحكم لم ينفذ وظل الرجل طليقا ومختفيا عن الأنظار بدوره حتى تمت تبرئته أمام محكمة النقض بعد ذلك بسنة (أكتوبر ٢٠١٦)، ومن السابقتين نستطيع أن نقول بأن واضعى قصة فيلم هروب العادلى لم يضيفوا شيئا إلى السيناريو القديم، ولن نكون بحاجة لأن نجهد أنفسنا كى نعرف نهاية الفيلم حين تنظر القضية أمام محكمة النقض. ذلك أن الذين تلاعبوا فى الأدلة ونجحوا فى الحصول على البراءة فى الحالتين السابقتين أولى بهم أن يكرروا المحاولة مع رجل بأهمية ورمزية العادلى.
لا تفوتنا فى هذا الصدد ملاحظة أن أركان النظام السابق الذين تم تدليلهم، وعلى رأسهم مبارك، تمت تبرئتهم من كل جرائم الفساد السياسى وقتل ثواريناير، لكن القضاء أثبت ضلوعهم فى نهب المال العام (مبارك وولداه أدينوا عام ٢٠١٦ فى جريمة الاستيلاء على نحو ١٢٥ مليون جنيه من مخصصات القصور الرئاسية، وحكم عليهم بالسجن المشدد ثلاث سنوات).
حين يقارن المرء بين معاملة أركان النظام السابق وبين مصير الألوف الذين امتلأت بهم السجون خلال السنوات الثلاث الأخيرة من مرحلة ما بعد الثورة (قيل إن عددهم ٦٠ ألفا) فإن لسانه ينعقد من الدهشة وتتعثر الكلمات فى حلقه، بحيث لا يستطيع أن يعبر عن صدمته، حتى أنه بالكاد يقول: ليس لها من دون الله كاشفة.