فلسفة الوعد بالنصر والتمكين وقت حلول المحنة
بقلم : السيد محمود الحساني
فلسفة الوعد بالنصر والتمكين وقت حلول المحنة .. !!
تأملات في الوعد الحق من رب العزة للصحابة بالنصر والتمكين .. !!
الوعد الحق .. هو وعد الله تعالى لعباده وأوليائه بالنصر والتمكين، ووراثة المستضعفين المؤمنين مشارق الأرض ومغاربها .. يرسل هذا الوعد إلى المتقين على لسان رسله، فتطمئن قلوبهم وتخلص لله نفوسهم وأعمالهم..
لكن الأمر ليس بتلك البساطة .. نعم هو وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، { ومن أوفى بعهده من الله }، لكن لابد أن يُثْبِتَ المؤمنون أنهم يستحقون النصر والتمكين في الأرض.
إنه صراع نفسي عنيف بين الحق والباطل، فالله تعالى ينصب الجنة على مرمى البصر لمن رغب فيها، ويحفها بالمكاره حتى تكون لذة الوصول إليها أجمل وأشهى، وحتى لا يدخلها إلا من يستحقها، ولا يتساوى المسلم والمجرم، قال تعالى: { أفنجعل المسلمين كالمجرمين }.
إن المؤمنين يمرّون بتجارب مريرة، قد تستنفذ طاقاتهم وصبرهم وأعمارهم، يرون الباطل في أضعاف أضعاف قوتهم، متحكما فيهم متجبرا عليهم، يسومهم سوء العذاب .. وفي أثناء تلك المعاناة تأتيهم البشرى على لسان الرسول بأن الله ناصرهم!! وهنا يبدأ الصراع النفسي العنيف، والذي قد يحسبه الكثيرون فتنة وشراً، لكن رب السماوات والأرض له حكمة في كل ذلك ..
إنه يريد أن تصقلهم المعاناة حتى تزداد قوة تحملهم، لأن مهمتهم في الكون خارقة وليست عادية ..
إنهم مسؤولون عن إخراج الناس من الظلمات إلى النور، مسؤولون عن تعريف الخلق بخالقهم، وبنزع لواء السيطرة من أيدي الباطل ليرفعوه بحقه .. وبغير تلك المعاناة التي هي في الحقيقة تربية حكيمة واعية، لن يتحمل أحدهم مواجهة الباطل وأهله بجبروتهم وطغيانهم ..
إن رجلا يتحمل كيّ النار على جلده ولا يتراجع عن إيمانه، ويصمد أمام التهديد بالقتل أو الإيذاء البالغ، خليق أن يكون قائدا للأمم، ومربيا للشعوب .. حتى إذا مرت بالأمة الناشئة أزمة كان هو رابط الجأش قوي الشكيمة، لا تهزه فتنة ولا يثنيه الإغراء بالدنيا عن رسالته وهو الذي رأى الموت بعينيه مرات ومرات.
كما أن حكمة الله البالغة أن تكون نفوس الناس على درجات، فمنهم من يكمل الطريق الوعر ومنهم من يفتتن، فيتميز المؤمنون إلى قادة وجنود، حتى يسير كل شيء وفق نظام محدد لا يختل عند هبوب العواصف وتكالب الأعداء.
وينسلخ ويخرج من الصف أيضا من كان ليس من أهله، وانضم إليهم لشيء في نفسه، يريد بذلك مسايرة كل جديد فربما يكون له فيه مصلحة .. وهؤلاء طاعون يصيب الدعوات والحركات المُصلِحة الخيّرة في مختلف العصور، فكم من دعوة قضى عليها جشع المنافقين، إذْ لم يظهروا على حقيقتهم في فتنة أو ابتلاء يعرف من خلاله المؤمنون بأسهم وصبرهم كيف هو..
ومن أبلغ الحكم في إلقاء البشارة وقت المعاناة، تصبير المؤمنين الصالحين على ما يلاقونه من الأذى، وأن بعد هذا العسر يسرا، فيحدث أيضا أن يتميز الناس فريقين، فريق يصدّق الله تعالى في إيمانه بالغيب وبموعود ربه، وفريق يكفر بالله ورسوله وموعوده .. ولا يخفى ما في ذلك أيضا من المصلحة الكبيرة لأهل الإيمان..
كما أن لتحقق وعد الله تعالى مراحل ينبغي أن يمر بها المؤمنون، ويعرفها من جاء بعدهم حتى يسيروا على نفس الطريق، ولا يفرّطوا في الصدارة التي منحهم الله إياها .. قال تعالى: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب }، وقال تعالى أيضا: { فاقصص القصص لعلهم يتفكرون }.
أما عن كيفية تناول تحقق هذا الوعد الإلهي لعباده وأوليائه في كتب التاريخ أو التراجم، فهي فن لا يحسنه إلا القليل من الناس أصحاب المواهب .. فالكتابة عن الرجال العظماء وتسجيل مواقفهم هي أفضل فنون الكتابات التاريخية، ولا أشك أبدا أن خير تعبير عن التاريخ هو تدوين تصرفات رجاله وأبطاله، فتصرفاتهم في المواقف المختلفة هي التطبيق العملي لروح التاريخ، وهي كذلك المرآة التي تكشف لنا ما أودعه الله تعالى في التاريخ من السنن والقوانين التي لا تتغير ولا تتبدل .. ومن هنا جاءت فائدة مطالعة هذه النوعية من الكتب ..
وللحق .. لا أجدني أستمتع وأنا أقرأ كتب التاريخ التنظيرية أو الفلسفية؛ ذلك لأنها تتكلم عن قواعد ونظريات جوفاء جامدة، لا تمس شغاف القلوب ولا تحقق الهدف المنشود منها .. قد يستفيد بها المؤرخ المتخصص في وضع كتاب، أو توثيق حدث من الأحداث .. لكنها لا تفيد من أراد الاستلهام من التاريخ والبحث عن درره شيئا .. فلا يحلو المقال إلا إذا زينه المثال ..
وقد سألني أحدهم ذات مرة عن السير والتراجم ولمن أحب أن أقرأ، ولماذا أنا مولع بها؟ ألم يكن يكفيني أن أقرأ في كتب التاريخ ومراجعه عن المواقع والحروب والأحداث؛ فأعرف بها من كان فيها وكيف كان أثره؟ ..
وكان جوابي عليه أن قلت: فلتقرأ كتابا في القواعد الأصولية، أو في علم مصطلح الحديث ولا تستعن بأمثلة، هل تستطيع هضم تلك المادة، وهل ستعي ما فيها بحذافيره؟
إضافة إلى نقطة أخرى أراها في غاية من الأهمية، وهي أننا لا بد أن نعرف تاريخنا بشيء من العاطفة .. نعم نسجل الأحداث والمواقف كما هي، لكن لا نترك أبدا آثارها التربوية والنفسية دون أن نفيد منها .. وإلا فلماذا نؤرخ من الأصل!!
إن العبرة المرجوة من دراسة التاريخ هي معرفة سنن الله تعالى في خلقه، ومعرفة أسباب الانتصار وأسباب الخذلان، ومعرفة دواعي قيام الأمم ودواعي سقوطها .. ولن تتحقق أيٌّ من تلك المعارف ما لم نَرَ المثال الحي والواقع التطبيقي لها ..
على سبيل المثال: كان عدد المسلمين في مؤتة ثلاثة آلاف رجل، وعدد الروم يقارب المائتي ألفاً، وكتب الله النصر للمسلمين وخذل الروم .. هذا هو تسجيل الحدث التاريخي، وهو تسجيل أبتر لا فائدة منه إلا معرفة معلومة نصر المسلمين في هذه الموقعة ..
لكن ما هو الحال لو ذكرنا المحاورات التي دارت بين القادة والجند، وكيف يغلب هذا العدد القليل من المسلمين أضعاف أضعافه من الروم ؟
لما علم المسلمون بعدد جنود الروم، جلس القادة يتشاورون وأدخلوا معهم بعض ذوي الرأي من الجنود .. فقال بعضهم إنها مهلكة بحق، واصطدام محسوم النتيجة لصالح الرومان، ولا بد أنهم سيبيدون الجيش عن آخره، وقال بعضهم نرسل إلى رسول الله ونرى رأيه في الأمر الذي حلّ بنا ..
وإذا بعبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه يحسم القضية لصالح القيم الإيمانية بكلمات قليلة، قال لهم: يا قوم، أتخافون الموت وأن يبيدنا القوم عن آخرنا؟، والله إن الذي تخافون لَهُوَ الذي خرجتم من دياركم تطلبون، فإن قُتلتم فجنات النعيم وإن حَييتم فنصر مبين .. فكان لكلماته أعجب الأثر، وسجل التاريخ هذه الهزيمة المنكرة للرومان من فرقة عسكرية بسيطة .. وكانت الموقعة ترجمة عملية لقول الله تعالى: {وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}.
تُرى .. هل هذا العرض للتاريخ برجاله ومواقفه مثل ذلك العرض السردي المعلوماتي .. وهل فائدة هذا كفائدة ذاك ؟
إن الرجال هم مرايا التواريخ .. وأحداث التاريخ يصنعها الرجال .. والعبرة تؤخذ من تصرف سليم صادر عن عقل حكيم .. والقارئ لا يقتدي إلا بإنسان يستحق أن يكون قدوة ومثالا، لا بمجموعة سطور لا يُعرف من كان السبب في تسطيرها، وحروف لا يعرف من له الفضل في تحبيرها ..
فوالله قد وجدتُ عيني تدر الدموع مرة بعد مرة كلما قرأت عن رجل من هؤلاء العظماء، الذين رفعوا دين الله، وأعلوا من شأن القيم، ووضعوا المُثُل العليا نصب أعينهم، فكانوا هداة للأمم..
وتحركت عاطفتي مع كل كلمة قالها رجل منهم أو حركة فعلها أحدهم .. كانوا كأنهم صورة الوحي تمشي على الأرض لتهدي الحيارى وتنقذ الركب الذي أوشك على الضياع فتذهب به إلى دوحة الإسلام المورقة الغناء ..
إنهم أصحاب محمد ..
فيهم تجلى كيف ينصر الله تعالى أولياءه، وكيف يخذل أعداءه .. فيهم ظهرت آيات الله في نبيه ، الذي علّمه ربه كيف يصنع الرجال العظماء لتحقق الغاية العظيمة ..
لم يتَّكلوا على وعد الله لنبيّه بالنصرة والتمكين، وما اعتمدوا على سابق القدر وتكاسلوا، ولم يثبط ذلك عزمهم أبدا .. بل عرفوا معنى الإيمان بالقدر حق المعرفة، وآمنوا به أعمق الإيمان..
أقاموا الميزان أمام أعينهم وقالوا: إن الله ناصر دينه بنا أو بغيرنا .. فهلم نبحث لنا عن دور، وهلم نجد لنا أجرا نلقى الله تعالى به يوم القيامة ..
فعلَّمونا أن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن النصر لا يعرف الكسالى، وأن العزة لا تتجه إلى البطالين العاطلين خاملي الذكر.
أسأل الله تعال أن يمن علينا بمصاحبتهم في الآخرة، وجوارهم في الجنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه . وما ذلك على الله ببعيد .
المصدر
مقال:فلسفة الوعد بالنصر والتمكين وقت حلول المحنةموقع:الشبكة الدعوية