وائل قنديل
وائل قنديل

على أطراف حديقة الوطنية السهلة

قلم وائل قنديل

مع غروب شمس هذا النهار، تكون سبعة أيام قد مرّت على مذبحة الإعدامات في مصر، وتبقى سبعة أيام أخرى على التصديق على تنفيذ قرار محكمة النقض التي تمثل آخر درجةٍ في التقاضي. سبعة أيام من العذاب والألم مرّت، وبقيت مثلهن تكابد فيها عائلات الحكم الجائر عذابًا مضاعفًا من الأسى والانتظار لما ستسفر عنه الأيام بشأن قضيةٍ غابت عنها العدالة والرحمة، وحضرت كل نوازع الانتقام والغلّ والتوحش في إهانة القانون.

من بين 12 شخصًا شملهم القرار الجائر في قضية فض اعتصام رابعة العدوية، هناك أشخاص لم يكونوا حاضرين في مسرح الأحداث من الأصل، ناهيك عن أن الوقائع كلها تشهد أننا أمام أوضاعٍ مقلوبة، حيث الجاني يحاكم الضحايا ويصدر القرارات بمعاقبتهم، لا لشيءٍ إلا لأنهم لم يموتوا قتلًا كما مات آلاف ربما كانوا معهم.

العوار القانوني والبطلان الإجرائي والتلفيق والافتراء، ذلك كله من المعلوم في هذه القضية بالضرورة لكل من يملك قدرًا من المعرفة بالقوانين، وكل من يملك ذرّة من الضمير الإنساني والنزاهة السياسية والسلامة العقلية والأخلاقية. غير أن السكوت هو سيد الموقف، إلا في استثناءاتٍ محدودةٍ للغاية في الأوساط الحقوقية والسياسية، لم تُرهبهم فزّاعات اللوثة الوطنية والزّفة الصاخبة التي تراوح مكانها، في موضوع سد النهضة. الإعلام الذي بنى مكانته في وعي الناس بوصفه “إعلام الإنسان أولًا” أصيب، هو الآخر، بضعف البصر، والبصيرة، أو ربما اعتراه عمى الألوان، فتضاءل حجم الإنسان في عينيه، لم يعد يراه جيدًا، وبات يرى مصالح الحكومات وعلاقات الأنظمة بأحجامٍ مضاعفة، فيفرغ نفسه للاحتفال بها، فيما “الإنسان” تسفك دماؤه وتُهدر حقوقه، وتُنحر على نُصُب الصفقات والمصالحات.

لا يمكن التعويل على إعلامٍ عربيٍّ في هذه الأمور، اللهم إلا في استثناءات محدودة أيضًا، كما لا يمكن أن تفرض على المختبئين في حطب المهنية المطّاطية أن يتبنّوا هذه القضية، وينصرفوا عن تلك، لكنك لا يمكن أن تكتفي بالفرجة على صمت الحملان السياسية الوديعة التي تربطها علاقات عمل سياسي وصداقات شخصية سابقة، ببعضٍ من الأسماء التي صدرت الأحكام بإعدامها أو سجنها إلى الأبد، وهي تتابع ما يدور من دون أن تجرؤ على قول كلمة حقٍّ بشأن هؤلاء، وهي مدركة تمام الإدراك أن هؤلاء ليسوا مجرمين ولا قتالين أو مخرّبين، وإن كانوا مختلفين معهم سياسيًا.

لم يمتلك أحد الجسارة ليتحدّث عن هؤلاء الذين حملوا أرواحهم على أكفّهم، وخاضوا ببسالةٍ معركة الدفاع عن بقاء ثورة يناير في أيامها الأولى، وأنقذوا ميدانها من الفناء. كل ما صدر عن “الرفاق السابقين” محض همهماتٍ خجلى تلتمس من صاحب قرار الإعدام العفو والسماح، بما يؤشّر بوضوح إلى أن أحدًا لم يعد يقدر على تحمل مشقّة النضال السياسي، أو حتى الإنساني.

هذا الموات الصامت، أو الصمت الميت، يبدو أنه اختيار لأصحابه. ولكي نكون موضوعيين وصادقين مع أنفسنا، لابد من الاعتراف بشجاعة بأن السياسة ماتت في مصر، بموت الرئيس محمد مرسي، ولم يبق من سياسيين بالمعنى الحقيقي للموقف السياسي سوى هؤلاء الذين يقبعون في السجون منذ جريمة القرن في “رابعة العدوية”، وهؤلاء يتم اقتيادهم على دفعات إلى مشنقة الإعدام، أو تجميدهم في ثلاجات العجز المهين، إن سُمِحَ لهم بالبقاء أحياءً.

قبل أسبوع من استشهاد الرئيس محمد مرسي، ساقطًا من إعياء التنكيل والحرمان من العلاج، في قاعة المحكمة، مات السفير إبراهيم يسري، وحيدًا، ليُدفن في مسقط رأسه، من دون أن يناضل أحد من تلاميذه ورفاقه لكي يقام له سرادق عزاء يليق بدوره وكفاحه الوطني، دبلوماسيًا، ثم ثائرًا يقود معارك المصير والسيادة الوطنية، قبل الثورة بسنوات، ومن دون أن يحاول أحد أن يقتبس حفنةً من جسارة السفير الراحل، فيذهب لتشييعه في قريته، ويحضر عزاءه.

وحين رحل الرئيس، أول رئيس ينتخبه الشعب ثم يموت سجينًا، لم ينطق أحدٌ بكلمةٍ وهو يتفرّج على مشاهد الانتقام من جثمانه، وهو يُدفن في جنح الظلام، لا يشيّعه أحد إلا زوجته ومن سمح له بالبقاء خارج السجن من أبنائه.

شيئًا فشيئًا، صارت معارضة الاستبداد تهوّرًا، وتم شقّ مصارف بديلة للنضال الميسر، وذرّا للرماد في العيون، لا بأس من ممارسة بعض فنون الوطنية السهلة، مأمونة العواقب التي لا تكلف كثيرًا، وتناسب جميع الفئات العمرية، كأن يحتشد المناضلون خلف الاستبداد في أزمة سد النهضة، مثلًا، وهنا لا يكون الاستبداد استبدادًا، ولا يصحّ أن تذكر ذلك، وإلا فأنت تتآمر على الوطن وتفرّط في نهر النيل. لا أحد يمكن أن يكون ضد هذا النوع من الوطنية، منخفضة المخاطر والتكاليف، التي يفضلها النظام، بل أنه لن يمانع لو زايدت عليه وانتقدته على تردّده في دخول المعركة، غير أن ثمّة معانٍ أخرى، أصدق وأنبل، للوطنية، لا يشترط لممارستها أن تتواطأ على سحق إنسانية المواطن، أو تسكت عن ظلمه، وتكتفي بالفرجة وهو يتم اقتياده، مظلومًا، إلى حبل المشنقة، بينما أنت مشتعلٌ حماسة لتأييد النظام وأنت تردّد “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، مع أنك تدرك أنك جزء من ديكورات عرض مبتذل.

الثابت أنه لا كرامة لوطن، كرامة الإنسان فيه لا اعتبار لها، مواطن مقهور ومظلوم ومسحوق ومُهان، هذا ما تفهمه إثيوبيا، وتتصرّف على ضوئه.