عائشة عبد الرحمن تركت 63 كتابا، وأكثر من ألف مقال، وظلت 20 عاما ركنا علميا متينا بكلية الشريعة في جامعة القرويين بالمغرب

حارسة التراث وفقيهة الدراسات القرآنية حصدت ثمرات المنهج التجديدي لزوجها أمين الخولي، ونجت من أوضاره وأضراره، وكانت أول امرأة تحصل على جائزة فيصل العالمية في الآداب عام 1994م. درّست في 9 جامعات عربية، وكرّمتها 6 دول عربية وإسلامية، وقدّمت 63 كتابًا للمكتبة العربية والإسلامية وأكثر من ألف مقال، ورأت أن المجدد في الأصول لا بد من أن يكون أصوليًا في التجديد، وظلت 20 عامًا ركنًا علميًا متينًا بكلية الشريعة بجامعة القرويين في المغرب.

22 عاما مرت على رحيل حارسة التراث وفقيهة الدراسات القرآنية الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) (6 نوفمبر/تشرين الثاني 1912-1330/ ديسمبر/كانون الأول 1998م-1419هـ) التي كانت شاهدة عصر بكل المقاييس، ومثّلت سيرتها جسرًا أمينًا لتلاقي الأجيال، وصناعة الرجال، وحراسة التراث، وحماية المرجعية من كل عناصر الدخن والدخل، وكل شوائب الخلط والخبط عبر مشروع متكامل من أسرتها الممتدة.

اجتمعت في شخصية الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) شخصيات عدة في ذات واحدة، وتلاقت في مسيرتها ظاهرات عدة في ظاهرة واحدة، فهي نموذج شاهد يجمع بفكره وشعره وعمله ومسيرته وصحبته أقوى البراهين على أن الأصالة هي مفتاح المعاصرة، وأن التليد هو بوابة التجديد.

فقيهة الدراسات القرآنية

أستاذة التفسير وعلوم القرآن بجامعة القرويين بالمملكة المغربية، والأستاذة في 9 جامعات عربية، ورفيقة شيخ المجددين في الأصول، وشيخ الأصوليين في التجديد الزوج الشيخ “أمين الخولي” وكيل كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) والقائم بأعمال عمادتها، تلك الصحبة التي تركت آثارها وتراثها وطلابها ومريديها على مدى نصف قرن.

وعبر “أسطورة الزمان” -الذي أطلقته على مشوار حياتها- ومدرسة “الأمناء” عكفت على تأصيل الحداثة، وتحديث الأصالة.

ولدت عائشة محمد علي عبد الرحمن منتصف نوفمبر/تشرين الثاني عام 1912 بمدينة دمياط بشمال دلتا مصر، حيث كان والدها مدرسًا بالمعهد الديني بدمياط، وكذلك كان جدّها لأبيها وأمها من الشيوخ الأزهريين.

حفظت القرآن وجوّدته وهي دون العاشرة من عمرها، ورغبت في الالتحاق بالأزهر الشريف فرفض والدها.. نزولًا على التقاليد المرعية في ذلك العهد من منع خروج المرأة إلى الشارع، والرغبة في عدم تعليم البنات من جيلها الذي أسمته “جيل ضحايا شهيدات”.

فدخلت الامتحان من الخارج -منازل- وحصلت على شهادة الكفاءة للمعلمات عام 1929م، وكان ترتيبها الأولى على القطر المصري، ثم حصلت على الشهادة الثانوية (البكالوريا) بتفوق، والتحقت بكلية الآداب بجامعة القاهرة، لتتخرج فيها عام 1939م بدعم من أمها.. حيث كان والدها حتى ذلك الحين يرفض بشدة تعليمها وخروجها من المنزل، وبإصرارها وتفوقها حصلت على درجة الماجستير بمرتبة الشرف الأولى عام 1941م.اعلان

وتجلت قدرتها الأدبية وشخصيتها الفكرية قبل أن تكون طالبة بالجامعة بعد، فقد كانت تنشر لها الأهرام مقالاتها عن الريف المصري بصفحاتها الأولى، كثاني سيدة يخرج فكرها إلى النور على صدر الأهرام بعد الآنسة “مي زيادة”. كما كانت تقوم بتحرير مجلة “النهضة النسائية” وإدارتها تقريبًا.

ثم واصلت مسيرتها العلمية حتى حصلت على الدكتوراه عام 1950م عن “أدب أبي العلاء المعري”، وناقشها الدكتور طه حسين في درس علمي ذائع الصيت في ذلك الحين.. حيث كانت  بنت الشاطئ نموذجًا تطبيقيًا لمنهجية زوجها وشيخها “أمين الخولي” الذي كان أحد أبرز الرؤوس الفكرية والأدبية بكلية الآداب، وكان له منهجه الخاص في البحث العلمي الذي استقته تلميذته عائشة، وتشبّعت به روحًا وعقلًا، من أول يوم إلى آخر يوم في حياتها.. ذلك المنهج القائم على هضم تراث السابقين بوعي تجديدي، وتجديد واعٍ، على مقولة “نحن نتعلم من السابقين لكننا لا نسير خلفهم”.

فقد كان لأمين الخولي معادلة طريفة في تشجيع طلابه على التوثب والتحصيل والتجديد، ومفاد هذه المعادلة (ط = أ + ز) بمعنى أن الطالب لا بد من أن يساوي أستاذه أولًا، ثم يزيد عليه بفارق الزمن بينهما.

أما عن منهجه الأدبي فإنه يقوم بإطاريه (الداخلي والخارجي) على البدء بجمع المصادر والمراجع، وكل أسباب الورود والتحقيق والتوثيق، المادية والمعنوية، ثم الاستغراق في فهم النصوص المنطلق من علوم العربية وفنونها.

لكن بنت الشاطئ كانت شديدة الوعي بما تصنع، فقد أخذت أحسن ما في منهج أمين الخولي ومدرسته العقلية في تجديد الدين، وتجنبت أسوأ ما فيه، حيث كان لهذه المدرسة سقطاتها الشهيرة.. لعل أبرزها ما يشير إليه الراحل الدكتور عبد الحليم عويس أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية الذي يرى أن انبهار بنت الشاطئ بأمين الخولي يخرج بها أحيانا عن حدود الموضوعية المنهجية، فقد انبهرت به تلميذة، وأعجبت أيما إعجاب بثقافته الواسعة وإجادته لغات أجنبية عدة، إلى جانب عقليته التحليلية وروحه التي فتحت عيونها على التراث من جديد، ثم احتواها زوجا فأنجبت منه 3 أبناء (أمينة وأديبة وأكمل)، لكنها -كما يرى عويس- كانت أكثر منه أصالة، وموضوعية، خاصة في عقودها الثلاثة الأخيرة، بعد أن بدأ يتلاشى تأثيره فيها.. ويتوارى مع تواريه في عالم الغيب.

وقفات في موضوعية المنهج

كانت كلية الآداب بجامعة القاهرة في أيامها الأولى مسرحًا لتضارب المناهج، وتطاحن الرؤوس.. فمن منهج (أحمد أمين) العقلي، وتأسيسه مدرسته الفكرية بجامعة القاهرة، إلى منهج أبي فهر (محمود شاكر) البحثي الذي ترك الجامعة مخاصما ومغاضبا لأستاذه طه حسين، وذهب إلى ما قبل المنهج وما بعده، ليأتي على منهج الشك الديكارتي عند طه حسين، ويقوضه من أساسه.

إلى منهج أمين الخولي (1895-1966م) ومدرسته التجديدية التي ذهب بها الشطط إلى أن تورطت في مساوئ علمية باسم التجديد الذي انكشف من خلال رسالة الماجستير التي كتبها (محمد أحمد خلف الله) عن (الفن القصصي في القرآن) بإشراف أمين الخولي، والتي طعن فيها في الصحة التاريخية للقصص القرآني، ولم يكن الخولي -الذي كان مع ذلك كثير التحذير من المستشرقين ووجهات نظرهم الملتوية- مجرد مشرف على الرسالة، بل كان راعيًا لهذا اللون من الفكر، محاميًا عنه، مجادلًا بزخرف من القول الذاهب -زورًا وبهتانًا- إلى أنه يتناول القرآن تناولًا أدبيًا وتاريخيًا، وكان كذلك جنوح أمين الخولي الذي خالف به علماء الأمة يتمثل في نظرته إلى الخوارج على أنهم الصورة المثلى والنموذج الصحيح الممثل للسياسة الشرعية في الإسلام، كما رأى أنهم شهداء الحرية المخلصين الذين رفعوا “إن الحكم إلا لله” وكانوا بها من العاملين.

وقد نجت بنت الشاطئ -مع انبهارها بالشيخ الزوج- من وهدات وسقطات وشطحات منهجه قبل فوات الأوان.. وإن تبنّت رؤيته في التعامل مع النص القرآني -تعاملًا بيانيًا- فهمزت فحلًا كبيرًا في هذا الباب.. وهو أديب العروبة والإسلام مصطفى صادق الرافعي، إلا أن الخلاف دائمًا مع بنت الشاطئ كان في الفروع والهوامش، ولم يكن أبدًا في الأصول والمبادئ.. فقد كانت واحدة من القلائل الذين يُعدّون على أصابع اليد الواحدة، في الوعي بفقه القرآن، وضوابط تحليله وتفسيره واستكناه تجلياته وبيانه، وتجلى ذلك في كتابيها “التفسير البياني للقرآن الكريم”، و”الإعجاز البياني للقرآن”.

التفسير العصري للقرآن

وتجلى هذا المنهج الذي تبنّته بنت الشاطئ بوضوح في معركتها المتعلقة بـ(التفسير العصري للقرآن الكريم) حيث بسطت فيها القول في كتاب خاص “القرآن والتفسير العصري” عرضت فيه طاقتها البحثية وأسانيدها العلمية، وصدّرت للكتاب بقول الإمام مالك “ليس كل من أحبّ أن يجلس للحديث والفتيا جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل والجهة، فإن رأوه لذلك أهلًا جلس، وما جلست حتى شهد لي 70 شيخًا من أهل العلم أني موضع لذلك”.

وفردت قلاعها وأشرعت كل أسلحتها العلمية دفاعًا عن منهج الأثر في تفسير القرآن الكريم، وقدمت مثالًا من نظراتها في تلك المدرسة على أثر هذا المنهج بكتابها “مقال في الإنسان” الذي أصدرته عن دار المعارف بالقاهرة، عام 1969م، على أنه دراسة منهجية تخضع لأدق الضوابط الصارمة.

والكتاب دراسة لقضية الإنسان من المبتدأ إلى المنتهى، تستقرئ فيه بنت الشاطئ آيات البيان القرآني في الحياة والموت، وتستجلي فيه ملامح الإنسان بكل كبريائه وعظمته وقوته، وتتدبر ما يحمله في رحلته العابرة إلى الدنيا من مسؤولية أمانته الصعبة وما يواجهه من مشكلات الوجود وهموم المصير.

والكتابان القديم والجديد كانا مقالًا ومثالًا ألقتهما في وجه المفكر المرموق د. مصطفى محمود عندما شرع في نشر نظراته العصرية في محاولة لتفسير عصري للقرآن الكريم بصحيفة روز اليوسف.

فقدحت بنت الشاطئ زنادها وأدارت معركتها على أشد ما تكون.. قائلة “لا أتردد في الجهر بأنه لا حرمة فينا لمن لا يحترم العلم، بل تسقط كل حرمة له بمجرد خوضه فيما لا يعلم، وجرأته على أن يقول (لا أدري فيما لا يدري)”.

بل ووقفت موقفًا صارمًا ضد أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة الأستاذ الدكتور عثمان أمين، وأنكرت عليه ادّعاءه ما يسمى (بالتفسير الجواني للقرآن الكريم) حين دخل على الخط في هذه المعركة إلى جانب الدكتور مصطفى محمود، وأدارت هذه المعركة على صفحات الأهرام تحت عنوان “هذا بلاغ للناس”.

حارسة التراث

كذلك كانت بنت الشاطئ في رحلتها المركبة بين حراسة التراث، ومواجهة الواقع العاصف، وموازنة حياتها الشخصية التي انتقلت فيها من بيت مشيخة إلى بيت مشيخة.. ولكن التباين الكبير بين مشيخة الوالد الشديدة المحافظة، ومشيخة الزوج شديد التطور والتجديد اضطر بنت الشاطئ إلى أن تكون واعية في محافظتها، محافظة في وعيها.. حتى تستطيع أن تدفع بخزينتها العلمية إلى سوق التلقي وفضاء التناول والتداول، ومقروئية الطلاب والباحثين.

فكانت في فضائها الصحفي رقمًا خاصًا له وزنه واعتباره الخاص، حيث كانت مشاركاتها الدائمة بجريدة الأهرام، وغيرها من الصحف نافذة مواكبة وازنة للجديد والمفيد، بلا مواربة أو تراجع، على نهج شيخها وزوجها أمين الخولي الذي التزمت منهجه، وتحررت من عيوبه، فكانت اللسان والبيان لجماعة الأمناء التي قام الخولي على تأسيسها للتأصيل والمراجعة.

وتكاد الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) تتجلى على الورق بكل ملامحها الذاتية والعلمية، وذلك لأنها وزوجها أمين الخولي أبناء مدرسة تقوم أول ما تقوم على النقد والمراجعة، والفحص والدرس، وعدم الانصياع للذاتية أو العفوية في أي عملية من عمليات التعلم أو التعليم.

ومن هنا فإن بنت الشاطئ كل لا يتجزأ، وجميع لا يتفرق، بكل ما تحمله من شجون وشؤون.

فلا هي نصف شخصية، ولا ربع صورة، ولا مخيلة كاتب، ولا رؤية مفكر.. إنما هي التي كانت وستبقى.. واحدة .. متفردة .. ومائزة.. بين سيدات النهضة العلمية والفكرية والأدبية في عالمنا العربي والإسلامي، وإحدى أهم الأسماء الجامعية المرموقة التي تحمل أصالة السلف وتطلعات الخلف، بأمانة ووعي، واستقصاء ومسؤولية.

وقد خاضت بنت الشاطئ معارك العدالة الاجتماعية والوعي السياسي، والأصالة المعاصرة، والرجعية والتقدمية، والاستلاب والتبعية، والأمية والتعليم، والدراسات اللغوية والقرآنية بين الأصيل والدخيل، والمرأة والمجتمع.. وغيرها من القضايا التي مرّ بها مجتمعنا العربي الإسلامي في العصر الحديث. وكانت في كل ذلك مثالًا للمرأة المسلمة العالمة المستبحرة في تراثنا العريق، الواقفة على شواطئ المستقبل بكل جديد ورشيد ومفيد.

كما ختمت رحلتها إلى جزيرة العرب (أرض المعجزات) بأشعارها الضارعة اللاهجة لرب البيت أن يبدل حالنا، وأن يحسن مآلنا.. فتقول في إحدى قصائدها:

الملايين على مــــر الزمـن
من حجـاز وعراق ويمن
من ضفاف النيل حتى الأطلسي
من ربا الشام وبيت المقدسـي
كم رأها العيد في يوم مني
نلتقي روحـًا وقلبًا ومُنــى
بهتاف العيد يعلو في الفضاء
ربنا لبيـك يا نور السمـاء
عيدنا اليوم وجوم وغضـب
يرفض الصبر ويجفوه الطرب
جرحنا ينزف قبل جرح الحمى
فيرد الشهد مرًا بعلقمــــا
وهتاف الناس في هذا الثـرى
يوم عيد الفطر في أم القـرى
ربنا لبيـــك إن الحمد لك

أما عن حمايتها وحراستها للتراث القرآني لغة وشرعًا، فحدث ولا حرج، فقد كانت خير ممثلة لمدرسة منهجية، استصفتها من أمين الخولي، تلك المدرسة التي يقوم قوامها على أن قتل القديم فهمًا.. هو أول الجديد.المصدر : الجزيرة