الافتتاحية : من سورة ( آل عمران:103-105)
قال تعالي: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ ( آل عمران:103-105)
“يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالتَّمَسُّكِ بِحَبْلِ اللهِ، أيْ بِعَهْدِهِ وَدِينِهِ وَذِمَّتِهِ وَقُرْآنِهِ، وَمَا أمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الإِلْفَةِ وَالمَحَبَّةِ وَالاجْتِمَاعِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ، وَيَطْلُبُ إلَيْهِمْ أنْ يَذْكُرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيهِمْ إذْ ألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَآخَى بَيْنَهُم بَعْدَ العَدَاوَةِ المُسْتَحْكِمَةِ، وَالفُرْقَةِ التِي كَانَتْ بَيْنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ، فَقَدْ كَانُوا عَلَى مِثْلِ شَفِيرِ النَّارِ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَضَلالِهِمْ وَاقْتِتَالِهِمْ، فَهَدَاهُمُ اللهُ وَأَنْقَذَهُمْ. وَكَمَا بَيَّنَ لَهُمْ رَبُّهُمْ، فِي هَذِهِ الآيَاتِ، مَا يُضْمِرُهُ لَهُمُ اليَهُودُ مِنْ شَرٍّ وَخِدَاعٍ وَغِشٍّ، وَمَا كَانُوا عَلَيهِ فِي حَالِ جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنْ كُفْرٍ وَفُرْقَةٍ وَاقْتِتَالٍ، وَمَا صَارُوا إليهِ بِفَضْلِ الإِسْلامِ مِنْ وَحْدَةٍ وَإِخَاءٍ، كَذَلِكَ يُبَيِّن سَائِرَ حُجَجِهِ فِي تَنْزِيلِهِ عَلَى رَسُولِهِ، لِيُعِدَّهُمْ لِلاهْتِدَاءِ الدَّائِمِ، حَتَّى لا يَعُودُوا إلى عَمَلِ أهْلِ الجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالعَدَاوَةِ وَالاقْتِتَالِ” (أيسر التفاسير) يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “إنهما ركيزتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة , وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم. فإذا انهارت واحدة منهما لم تكن هناك جماعة مسلمة, ولم يكن هنالك دور لها تؤديه: ركيزة الإيمان والتقوى أولاً ثم ركيزة الأخوة في الله, على منهج الله, لتحقيق منهج الله: فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام . . من الركيزة الأولى أساسها الاعتصام بحبل الله أي عهده ونهجه ودينه وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر, ولا على أي هدف آخر, ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة! وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله, تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية, والثارات القبلية, والأطماع الشخصية والرايات العنصرية. ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال” (في ظلال القرآن، بتصرف).
دروس مستفادة من الآيات:
• الاعتصام بحبل الله ومنهجه والحفاظ علي وحدة الأمة هدف من أهداف الإسلام الكبري.
• التفرق يفضي إلي الضعف والهوان في الدنيا وربما يوصل أصحابه إلي النار في الآخرة.
• ………………………………………………………أذكر دروساً أخري.
مفهوم الخلاف: (طبيعي، ضروري، مفيد):
الخلاف بين الناس أمر طبيعي تقتضيه الطبيعة الإنسانية كما تقتضيه طبيعة الدين و طبيعة اللغة: يقول الشيخ عبد الله بن بيه: “الاختلاف ظاهرة لا يمكن تحاشيها باعتبارها مظهراً من مظاهر الإرادة التي ركبت في الإنسان” ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾(هود:118) يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه” (إعلام الموقعين) يقول د. يوسف القرضاوي: “إن أسباب الخلاف قائمة في طبيعة البشر، وطبيعة الحياة، وطبيعة اللغة، وطبيعة التكليف، فمن أراد أن يزيل الخلاف بالكلية، فإنما يكلف الناس والحياة واللغة والشرائع ضد طبائعها.على أن الخلاف العلمي في ذاته لا خطر فيه، إذا اقترن بالتسامح وسعة الأفق، وتحرر من التعصب والاتهام وضيق النظر” ويقول الإمام البنا: ” إن الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل، بل هو يتنافى مع طبيعة الدين، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور ويماشي الأزمان، وهو لهذا سهل مرن هين لين لا جمود فيه ولا تشديد”.
والخلاف ضروري لثراء الفكر وتطور الحياة ورعاية أحوال الناس المتغيرة ولذا فهو سعة ورحمة ومصلحة وثروة: يقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة”. قال ابن قدامة رحمه الله: “إن الله برحمته وطَوْلِه جعل سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام مهد بهم قواعد الإسلام وأوضح بهم مشكلات الأحكام: اتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة”( المغني) وقال الإمام الحجة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم: “لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرًا منه قد عمل عمله” (جامع بيان العلم وفضله) وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن “رجلاً صنف كتابًا في الاختلاف فقال أحمد: لا تُسمِّه كتاب الاختلاف، ولكن سمه كتاب السعة” (الفتاوى الكبري). يقول عمر عبد الله كامل: “اختلاف الآراء الاجتهادية يثري الفقه لأن كل رأي يستند إلى أدلة واعتبارات شرعية. وبهذا التعدد والتنوع تتسع الثروة الفقهية التشريعية، وإن تعدد المذاهب الفقهية وكثرة الأقوال كنوز لا يقدر قدرها وثروة لا يعرف قيمتها إلا أهل العلم والبحث، فقد يكون بعضها أكثر ملاءمة لزمان ومكان من غيره”().
تفهم أسباب الخلاف يعصم من التعصب:
يقول الإمام البنا رحمه الله: “نعتقد أن الخلاف في فروع الدين أمر لابد منه ضرورة، ولا يمكن أن نتحد في هذه الفروع لأسباب عدة منها:اختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعفه، وإدراك الدلائل، والجهل بها، والغوص على أعماق المعاني، وارتباط الحقائق بعضها ببعض، والدين آيات وأحاديث ونصوص يفسرها العقل والرأي في حدود اللغة وقوانينها، والنّاس في ذلك جد متفاوتين، فلابد من خلاف. ومنها سعة العلم وضيقه، وأن هذا بلغه ما لم يبلغ ذلك، والآخر شأنه كذلك، وقد قال الإمام مالك لأبي جعفر: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة. ومنها: اختلاف البيئات، حتى إن التطبيق ليختلف باختلاف كل بيئة، وإنك لترى الإمام الشافعي رضي الله عنه يفتي بالقديم في العراق، ويفتي بالجديد في مصر، وهو في كليهما آخذ بما استبان له، وما اتضح عنده لا يعدو أن يتحرى الحق في كليهما. ومنها: اختلاف الاطمئنان القلبي إلى الرواية عند التلقي لها، فبينا نجد هذا الراوي ثقة عند هذا الإمام تطمئن إليه نفسه، وتطيب بالأخذ منه، تراه مجروحاً عند غيره لما علم عن حاله. ومنها: اختلاف تقدير الدلالات، فهذا يعتبر عمل الناس مقدماً على خبر الآحاد مثلاً، وذاك لا يقول معه به.. وهكذا. كل هذه أسباب جعلتنا نعتقد هذا فنلتمس العذر كل العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبداً حائلاً دون ارتباط القلوب، وتبادل الحب، والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده، وأوسع مشتملاته، ألسنا مسلمين وهم كذلك؟وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالاً للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم في جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو إلى التفاهم؟”(مجموعة الرسائل).
يقول د. يوسف القرضاوي: “معرفة مراتب الأحكام الشرعية، وأنها ليست في درجة واحدة من حيث ثبوتها، وبالتالي من حيث جواز الاختلاف فيها أمر مهم يعصم من التعصب. فهناك الأحكام الظنية التي هي مجال الاجتهاد، وتقبل تعدد الأفهام والتفسيرات، سواء كانت أحكاماً فيما لا نص فيه أو فيما فيه نص ظني الثبوت، أو ظني الدلالة، أو ظنيهما معاً، وهذا شأن معظم الأحكام المتعلقة بالعمل، كأحكام الفقه، فهذه يكفي فيها الظن، بخلاف الأحكام المتعلقة بالعقيدة، التي لا يغني فيها إلاّ القطع واليقين.والاختلاف في الأحكام الفرعية العملية والظنية، لا ضرر فيه ولا خطر منه، إذا كان مبنياً على اجتهاد شرعي صحيح، وهو رحمة بالأمة، ومرونة في الشريعة، وسعة في الفقه، وقد اختلف فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان، فما ضرهم ذلك شيئاً، وما نال من أخوتهم ووحدتهم كثيراً ولا قليلاً”. “لهذا كان من المعاني الكبيرة التي يجب على شبابنا أن يحسنوا التفقه فيها: أن يعرفوا ما يجوز فيه الخلاف، وما لا يجوز، وأن منطقة ما يجوز فيه الخلاف أوسع بكثير مما لا يجوز، وأهم من هذا كله أن يتعلموا أدب الخلاف وهو أدب ورثناه من أئمتنا وعلمائنا الأعلام، علينا أن نتعلم منهم كيف تتسع صدورنا لمن يخالفنا في فروع الدين… يجب أن نتعلم أن الخلاف في الفروع أمر واقع، ما له من دافع، وأن لله حكمة بالغة حين جعل من أحكام الشريعة القطعي في ثبوته ودلالته، فلا مجال للخلاف فيه، وهذا هو القليل، بل الأقل من القليل، وجعل منها الظني في ثبوته أو دلالته، أو فيهما معاً، فهذا بما فيه مجال رحب للاختلاف، وهو جلّ أحكام الشريعة، وهناك من العلماء من آتاهم الله القدرة على التحقيق والتمحيص والترجيح بين الأقوال المتنازع فيها، دون تعصب لمذهب أو قول، مثل الأئمة: ابن دقيق العيد، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن حجر العسقلاني، والدهلوي، والشوكاني، والصنعاني.. وغيرهم، ولكن محاولات هؤلاء من قبل، لم ترفع الخلاف، ومحاولات غيرهم من بعد، لم ترفع الخلاف ولن ترفعه”(موقع القرضاوي، بتصرف).
من آداب الصحابة والتابعين في الخلاف:
• الرجوع عن الرأي إلى الدليل: “إن الخطيب البغدادي وابن قيم الجوزية عرضا في مصنفيهما لعشرات المسائل لعدد من الصحابة الذين نُقل عنهم الرجوع عن آرائهم التي رأوها إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: لا ترث الزوجة من دية زوجها شيئاً، حتى قال الضحاك بن سفيان رضي الله عنه: كتب إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع عمر. وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يكري أرض آل عمر، فسأل رافع بن خديج، فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض فترك ذلك ابن عمر. وسأل أبو الجوزاء ابن عباس عن الصرف فقال له: يداً بيد لا بأس به؟ ثم حج أبو الجوزاء مرة أخرى. فجاء ابن عباس فسأله فقال: وزناً بوزن، فقال أبو الجوزاء: أفتيتني اثنين بواحدة فلم أزل أفتي به مذ أفتيتني، فقال ابن عباس: كان ذلك عن رأي، وهذا أبو سعيد الخدري يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم.. فتركت رأيي لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم” (شبكة مشكاة الإسلامية).
• اختلاف العقول وتآلف القلوب: اختلف الصحابة الكرام في ظل الحب والأخوة في الله والاحترام المتبادل ولم يؤثر الخلاف أبداً علي علاقة الأخوة وما يرتبط بها من حقوق، ولم تتغير قلوبهم وإن كانت المسائل موضع الخلاف كبيرة ويترتب عليها اختلاف كبير في طريقة إدارة الدولة، ومن المسائل الفقهية ذائعة الصيت والتي اختلفوا فيها: قسمة الأراضي المفتوحة؛ فكان أبو بكر رضي الله عنه يرى قسمتها، وكان عمر رضي الله عنه يرى وقفها ولم يقسمها، وكذلك كان اختلاف الشيخين في المفاضلة في العطاء فكان أبو بكر رضي الله عنه يرى التسوية في الأعطيات بينما كان عمر رضي الل عنه يرى المفاضلة، حيث لم يسو في العطاء بين من قاتل النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، وبين من لم يقاتله قط. وقد التزم عمر رضي الله عنه برأي أبي بكر زمن خلافته فلما أصبح الخليفة طبق السياسة الأخري.
• العمل برأي المخالف: وهو صورة راقية من أدب الخلاف بين الأصحاب ومن أمثلة ذلك عمل الخليفة عمر بن الخطاب برأي علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في مسألة المرأة المغيبة ولم يجد غضاضة من العمل باجتهاده وهو أمير المؤمنين. “وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ بالبسملة، ومنهم من لا يقرأ بها، ومع هذا، كان بعضهم يصلي خلف بعض، مثلما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية، وإن كانوا لا يقرؤون بالبسملة لا سراً ولا جهرا. وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم، وأفتاه مالك: لا يتوضأ، فصلّى خلفه أبو يوسف ولم يعد، وكان أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الحجامة والرعاف، فقيل له: فإن كان إمامي قد خرج منه الدم ولم يتوضأ، أصلي خلفه؟ فقال: كيف لا تصلي خلف سعيد ابن المسيب ومالك؟” (القرضاوي، بتصرف، نقلاً عن الفواكه العديدة).
• ترك الأفضل لتأليف القلوب: وقد فعل ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم حين ترك نقض الكعبة وإعادة بنائها علي قواعد إبراهيم رعاية لحال المسلمين فقال للسيدة عائشة رضي الله عنها: “لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم” (رواه البخاري ). يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى: “مراعاة الائتلاف هي الحق، فيجهر بالبسملة أحياناً لمصلحة راجحة، ويسوغ ترك الأفضل لتأليف القلوب، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت من خشية تنفيرهم”. ولما كانت جماعة الإخوان تسير علي هدي سلف الأمة نري الإمام البنا رحمه الله يقول: “دعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية غير ملونة بلون، وهي مع الحق أينما كان، تحب الإجماع، وتكره الشذوذ وإن أعظم ما مُنى به المسلمون الفرقة والخلاف، وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة. ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، هذه قاعدة أساسية وهدف معلوم لكل أخ مسلم، وعقيدة راسخة في نفوسنا، نصدر عنها وندعو إليها”(رسالة دعوتنا).
• تجنب المراء واللدد في الخصومة: اختلف الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم ولم يؤثر عنهم جدل ولا مراء ولا خصومة، بل إنهم كانوا يتهيبون الفتيا ويفرون منها ويقذفها بعضهم إلي بعض، وكانوا لا يثيرون مسائل افتراضية يتصدون لبحثها والجدل حولها ولكنهم كانوا يناقشون ما يقع فعلاً من حوادث جديدة ليس فيها نص وتحتاج إلي معرفة حكم الإسلام فيها، وعملوا دائماً بقول النبي صلي الله عليه وسلم “ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أورثو الجدل” وقوله عليه الصلاة والسلام “أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً”.
• الاحترام المتبادل: كان الصحابة و التابعون رضوان الله عليهم يحترم بعضهم بعضاً رغم الخلاف؛ فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرد علي الأقرع بن حابس حين قال له مستنكراً أأنت الخليفة أم عمر رداً يمثل قمة في الاحترام والتقدير والتواضع قال له: “بل هو الخليفة لو أراد”، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عن علي رضي الله عنه: “بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن”، ويقول عندما سمع نعي خالد بن الوليد رضي الله عنه: “علي أبي سليمان فلتبك البواكي، والله ما بكت النساء مثل أبي سليمان، رحم الله أبا بكر فقد كان أعرف بأقدار الرجال مني”، وهذا الإمام الشافعي وقد تتلمذ علي يد الإمام مالك الذي حضر درس تلميذه يوماً دون أن يراه ثم كتب علي رقعة علقها علي عمود المسجد: من أراد العلم النفيس فعليه بمحمد ابن إدريس فلما قرأها الشافعي كتب تحتها: وكيف لا يكون كذلك وهو تلميذ الإمام مالك، وقد ألف الإمام ابن القيم رحمه الله كتابه مدارج السالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين رداً علي كتاب منازل السائرين لشيخ الإسلام إسماعيل الهروي الصوفي وكتب في مقدمة الكتاب: “إن كنت قد خالفت شيخ الإسلام في بعض ما ذهب إليه فإن مثلي منه كمثل الهدهد من سليمان، قال أحطت بما لم تحط به والهدهد هو الهدهد وسليمان هو سليمان”.
• اجتناب التأثيم والتكفير: لم يؤثر قط عن الصحابة والتابعين أن أحداً منهم رمي الآخر بالكفر أو الفسق، أو اتهمه بالبدعة والضلالة، أونقب عن معايبة وتصيد له الأخطاء ونشرها حتي ما كان منها قبل أن يدخل الإسلام. فهذا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه يقول عن الخوارج الذين قاتلوه بالسيف: إخواننا بغوا عليناً ويقول عنهم قوم طلبوا الحق فأخطأوه؛ فهو لم يسقط عنهم صفة الإخوة ولا الإسلام ولم يتهم نياتهم بل شهد أن نياتهم كانت حسنة ولكنهم أخطأوا الطريق.
• التماس العذر للمخالف: المجتهد المخطئ معذور، بل مأجور أجرًا واحدًا كما جاء في الصحيحين: “إذا حكم الحاكم ثم اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد” (متفق عليه). ومن أدب الصحابة والتابعين في الخلاف أنهم كانوا يعذر بعضهم بعضاً ولا يعيب بعضهم علي بعض فمثلاً اختلف الصحابة في تطبيق قول النبي صلي الله عليه وسلم “لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة” فمنهم من صلي في الطريق وقالوا إنما أراد رسول الله الإسراع ولم يرد تأخير الصلاة ومنهم من أخر الصلاة حتي بلغ بني قريظة عملاً بظاهر النص ولم يؤثر أن أحداً عاب علي أحد أو سفه رأيه بل ساروا معاً في حب وأخوة والتماس العذر للمخالف حتي بلغوا رسول الله صلي الله عليه وسلم فلم يعب علي أي منهم. فمن وافق منهم مراد رسول الله صلي الله عليه وسلم فله أجران ومن اجتهد ولم يوافق اجتهاده مراد رسول الله صلي الله عليه وسلم فله أجر واحد.
نماذج من الخلاف عند السلف:
نقل الدكتور عبد الرحمن البر فك الله أسره وأسر إخوانه بعض هذه الصور بقوله: “قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: ما رأيت أعقلَ من الشافعي! ناظرتُه يوما في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة؟! قال الذهبي: قلت هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون. وقال أحمد بن حنبل: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لا يزال يخالف بعضهم بعضا. وعن العباس بن عبد العظيم العنبري قال: كنت عند أحمد بن حنبل وجاءه علي بن المديني راكبا على دابة، قال: فتناظرا في الشهادة (يعني الشهادة بالجنة لمن شهد بدرا والحديبية ولمن جاء نص في استحقاقه الجنة) وارتفعتْ أصواتهما، حتى خفتُ أن يقع بينهما جفاء، وكان أحمد يرى الشهادة وعليٌّ يأبى ويدفع ، فلما أراد عليٌّ الانصرافَ قام أحمد فأخذ بركابه. وعن عبدالعزيز بن محمد قال: رأيت أبا حنيفة ومالك بن أنس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العشاء الآخرة، وهما يتذاكران ويتدارسان، حتى إذا وقف أحدهما على القول الذي قال به صاحبه أمسك الآخر من غير تعنيف ولا تَمَعُّرٍ ولا تخطئة، حتى يصليا الغداة (يعني الفجر) في مجلسهما ذلك. وقال ابن مهدي: كنا في جنازة فسألت الحسن بن عبد الله العنبري عن مسألة فغلط فيها فقلت له: أصلحك الله! القولُ فيها كذا وكذا. فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال: إذاً أرجع وأنا صاغر، لَأَن أكون ذَنَباً في الحق أحبُّ إليَّ من أن أكون رأسا في الباطل”
نموذج معاصر للخلاف الراقي:
يقول الشيخ القرضاوى:” ومما أذكره أني تلقيت رسالة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله خلاصتها: أن وزارة الإعلام طلبت رأيه في كتابي “الحلال والحرام في الإسلام”؛ لأن بعض الناشرين طلبوا من الوزارة الإذن بنشر الكتاب في السعودية. فلا غرو أن ذكر الشيخ ابن باز بأدب العالم الكبير، ورفق الداعية البصير أنه يريد أن يفسح للكتاب لما فيه من نفع للمسلمين لسلاسته وجمال أسلوبه، وأخذه بمنهج التيسير، ولكن المشايخ في المملكة خالفوه في ثماني مسائل. وسرد الشيخ رحمه الله هذه المسائل الثماني، ومنها: ما يتعلق بزي المرأة وعملها، وما يتعلق بالغناء والسماع، وما يتعلق بالتصوير، وما يتعلق بالتدخين وأني لم أحسم الرأي فيه بالتحريم، وما يتعلق بمودة غير المسلم… الخ. وقال الشيخ بن باز رحمه الله: وإن كتبك لها وزنها وثقلها في العالم الإسلامي، وقبولها العام عند الناس، ولذا نتمنى لو تُراجع هذه المسائل لتحظى بالقبول الإجماعي عند المسلمين. هذا وقد رددت تحية الشيخ بأحسن منها، وكتبت له رسالة رقيقة، تحمل كل مودة وتقدير، وقلت له: لو كان من حق الإنسان أن يدين الله بغير ما أداه إليه اجتهاده، ويتنازل عنه لخاطر من يحب، لكان سماحتكم أول من أتنازل له عن رأيي؛ لما أكن لكم من حب وإعزاز واحترام، ولكن جرت سنة الله في الناس أن يختلفوا، وأوسع الله لنا أن نختلف في فروع الدين، ما دام اختلافاً في إطار الأصول الشرعية، والقواعد المرعية، وقد اختلف الصحابة والتابعون والأئمة الكبار؛ فما ضرهم ذلك شيئاً؛ اختلفت آراؤهم، ولم تختلف قلوبهم، وصلّى بعضهم وراء بعض. والمسائل التي ذكرتموها سماحتكم، منها ما كان الخلاف فيها قديماً، وسيظل الناس يختلفون فيها، ومحاولة رفع الخلاف في هذه القضايا غير ممكن، وقد بين العلماء أسباب الاختلاف وألفوا فيها كتباً، لعل من أشهرها كتاب شيخ الإسلام “رفع الملام عن الأئمة الأعلام”. ومن هذه المسائل ما لم يفهم موقفي فيها جيداً، مثل موضوع التدخين؛ فأنا من المشددين فيه، وقد رجحت تحريمه في الكتاب بوضوح، إنما وهم من وهم في ذلك؛ لأني قلت في حكم زراعته: حكم الزراعة مبني على حكم التدخين؛ فمن حرم تناوله حرم زراعته، ومن كره تناوله كره زراعته، وهذا ليس تراجعاً عن التحريم. وأما مودة الكافر فأنا لا أبيح موادة كل كافر؛ فالكافر المحارب والمعادي للمسلمين لا مودة له، وفيه جاء قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (سورة المجادلة: من الآية 22). ومحادة الله ورسوله ليست مجرد الكفر، ولكنها المشاقة والمعاداة. وتعلم سماحتكم أن الإسلام أجاز للمسلم أن يتزوج كتابية، كما في سورة المائدة (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) (المائدة: 5)، فهل يحرم على الزوج أن يود زوجته، والله تعالى يقول: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (سورة الروم: من الآية 21)، وهل يُحرّم على الابن أن يود أمّه الكتابية؟ أو يود جده وجدته، وخاله وخالته، وأولاد أخواله وخالاته؟ وكلهم تجب لهم صلة الرحم، وحقوق أولي القربى.وعلى كل حال أرجو من فضيلتكم ألاّ يكون الاختلاف في بعض المسائل الاجتهادية الفرعية حائلاً دون الفسح للكتاب، وها هو الشيخ الألباني يخالفكم في قضية حجاب المرأة المسلمة.. فهل تمنعون كتبه؟ وختمت الكتاب بالتحية والدعاء.. وأعتقد أن الشيخ استجاب لما فيه، وفسح لكتاب “الحلال والحرام” ولغيره من كتبي، والحمد لله”.
دور الفرد عند وجود الخلاف(واجبات عملية):
• الاعتصام بحبل الله والتمسك بعري الجماعة.
• الدعاء الدائم والضراعة إلي الله تعالي أن يؤلف بين قلوب الإخوان وأن يهديهم سواء السبيل.
• إحسان الظن بإخوانه جميعاً وتفسير ما يصدر عنهم علي أفضل الوجوه.
• رد غيبة الإخوان وعدم ترك المجال لمن يريد توسيع شقة الخلاف.
• التوقف عن كل ما من شأنه أن يذكي الخلاف ويزيد مساحته.
• الانصراف إلي العمل والحذر من تضييع الوقت فيما لا ينبني عليه عمل.