«فاستعدوا فأنا السفاح الهائج»… أبو العباس السفاح مستهلاً عهده
في 22 سبتمبر 2017 توفي الأستاذ مهدي عاكف المرشد الأسبق للإخوان المسلمين عن عمرٍ يقارب التسعين عاماً في سجون النظام المصري، وفي 17 يونيو 2019 سقط ميتاً رئيس الجمهورية المدني المنتخب الأستاذ الدكتور محمد مرسي، أثناء محاكمته من قبل نظام السيسي، الذي انقلب عليه، وفي 4 مايو 2020 توفي المخرج شادي حبش ذو الأربع والعشرين سنةً أيضاً في سجن النظام المصري، وفي يوليو السابق انتقل إلى رحمة الله الصحافي الشجاع بحق محمد منير عقب إطلاق سراحه من الاعتقال ليقضي ضحية كورونا.
مرشدٌ سابق طاعنٌ في السن ومريض ناهيك من كونه تنحى عن دوره التنظيمي منذ 2009، ورئيسٌ سابق يعاني أمراضاً عدة منتميان إلى جماعة الإخوان المسلمين، وشابٌ ليس محسوباً على أي تيارٍ سياسيٍ بالمعنى المتعارف عليه وليس له «لا في الثور ولا في الطحين»، كما يمكن أن يصفه المثل الشعبي الدارج، ويبدو وفق الشواهد أنه مات حائراً لم يستطع أن يجد سبباً مقنعاً لمصيره البائس، وصحافي يساري.
قبلهم، وفي أغسطس اللعين أيضاً، قُتل حرقاً وخنقاً سبعةٌ وثلاثون شخصاً في سيارة ترحيلات عقب إطلاق الرصاص والغاز عليهم، ثم تركوا لمصيرهم، يستغيثون ليقابلوا بالبلادة وعدم الاكتراث.
نماذج لا أكثر، وغيضٌ من فيض القتلى، فإذا أضفنا إليهم المعتقلين من أمثال قضية الأمل والإخوان، ومن ليس لهم تصنيفٌ سياسي، الـ»بدون»، نجد أن «اللمة» اكتملت في السجون، حيث وحّد السيسي كل أطياف السياسة، وغير السياسة في كتلةٍ بائسةٍ من البهدلة والإهانة والعذاب، والأهم من ذلك، الموت البطيء المتعمد. إذ انضم البارحة إليهم القيادي السابق في جماعة الإخوان المسلمين الدكتور عصام العريان عضو مكتب الإرشاد، ونائب رئيس حزب الحرية والعدالة، في توقيتٍ عجيب، إذ اقترب من ذكرى مذبحة رابعة، ذلك العمل المؤسس لثورةٍ مضادة أبت إلا أن تتعمد بالدم.
الرواية الرسمية (حتى الآن) أنه مات نتيجة سكتةٍ قلبية، والحقيقة أن تلك العلة فيها من الجهل ما يدهش، ولما كنت طبيباً، فيتعين عليّ أن أوضح أنه ليس من شخصٍ يموت إلا بهبوطٍ في الدورة الدموية، ومن ثم توقف القلب، فهذا ما تؤدي إليه كل الأسباب على تنوعها، يتساوى في ذلك من به مرضٌ عضالٌ مزمن، ومن أصابته دانة مدفع! وأعلم يقيناً أن الراحل سيتعرض لحملة تشويهٍ وشيطنةٍ بشعة طيلة الأيام المقبلة، لن تفوت الفرصة للنيل من جماعة الإخوان المسلمين وقيادييها ومنتسبيها، وحتى المتعاطفين معها. أي أن العريان، رحمه الله، كان «وِحِش» بمعنى سيئ، كما نقول في العامية المصرية. والحقيقة أنني لا يعنيني هنا والآن صفاته الشخصية، ولا تصريحاته ولا دوره التنظيمي على الإطلاق، وأرفض الانسياق في جدلٍ لن ينتهي عن الجماعة وأيديولوجيتها ومسلكها في السلطة؛ ما يهمني هو كونه إنساناً، ومن ثم مواطناً من المفترض أن له حقوقاً مكفولةً حياً وميتاً، حراً ومسجوناً وأسيراً، وهذه الحقوق لا تسقط بالخلاف السياسي، ولا حتى الجرائم، وعلى رأسها الحق في الرعاية الصحية والمعاملة الآدمية.
من المفترض في أي نظامٍ نصف محترم أن يحتكم إلى العدالة لا أن يثأر، ويطبق الأحكام في إطار ضوابطها لا أن يستخدم القوة الغاشمة، كما صرح السيسي من قبل.
وبالطبع فإن تلك الحقوق ليست وقفاً على الراحل الدكتور عصام العريان، وإنما هي حقوقٌ تشمل كل من ينتمي إلى الجنس البشري. هذا من حيث المبدأ، أما من حيث التطبيق فإن الرسالة التي يبعث بها السيسي ونظامه مرةً تلو الأخرى مزعجةٌ للغاية بل مرعبة. كان باستطاعته إعدام هذه القيادات أو قتلهم، لكن لا، فهذا الحل على دمويته كفيلٌ باختصار معاناتهم، ووضع حدٍ لعذابهم وإهانتهم، في حين أن هذا هو المطلوب بالضبط: أن يموتوا ببطء،أن يتعفنوا كما علّق الراحل شادي حبش، أن يُتركوا بدون رعايةٍ طبية، لا ليتألموا ويقاسوا عذاب الموت البطيء فقط، ولكن ليدركوا ويروا أنفسهم، أجسادهم ، مادتهم، تتحلل وتتآكل بفعل الأمراض المزمنة، سواءً التي دخلوا بها كأمراض القلب وسكر الدم والضغط، أو تلك التي أصيبوا بها في الداخل، ناهيك من الأوبئة والجوائح مثل كورونا.
أما الوجه الآخر لهذه السياسة، فهو إرسال رسالةٍ للجمهور الأوسع بأن هذا هو المصير الذي ينتظر المعارضين، وكل من يتخطون خطاً أحمر، غير محددٍ تماماً، فضلاً عن كونه متحركا. كما يتحدث العالم الآن عقب وفي ظل الكورونا عن «العادي الجديد»، فإن السيسي، رأس حربة الثورة المضادة وسلاحها الأمضى، ممثلاً في الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية، إذ يرمم الدولة يؤسس «العادي الجديد في مصر»؛ لقد بدأ بإرسال هذه الرسالة، أو الشيفرة بمجزرة رابعة مكرساً رخص الدم البشري، وابتذال القتل والدم. لم يكذب ولم يبالغ حين أفصح عن نيته استخدام «القوة الغاشمة» ولعل تلك ميزة فقره اللغوي ومحدودية ذكائه. في ظل «العادي الجديد» ليس للمواطن سوى سماعه هو وحده، كما طالب الناس صراحةً وحثهم مراراً، وينبغي أن لا يسائلوه، فقط طلب «التفويض»، منذ البداية ولم يعن بذلك سوى التسليم التام لكل ما يريد ويرى. للناس أن يمضوا في سبيلهم ويصفقوا له وليس لهم الكلام في السياسة، ولو أن أحدهم تطاول فقد بات المصير المنتظر واضحاً، ولكلٍ نصيبه، فلئن أصيب بمرضٍ في السجن فالويل له.
في عادي السيسي الجديد، وجودٌ مواز هو في حقيقته عدم، تسقط عن المرء بموجبه كل الحقوق الإنسانية، وأي شبهة كرامة، آلافٌ يقبعون في غياهب السجون في ظروفٍ لا تليق بالفصيلة البشرية، ويدورون من سجنٍ لآخر، كابوس كأبشع أفلام الرعب، وحين يتحدث السيسي عن الاختيار فهو بين التنازل عن الحقوق السياسية والاجتماعية، أو التنازل عن الوجود الإنساني، حيث يصبح الموت أمنيةً عزيزة المنال.
مصر في تصور السيسي، تلك التي كأنه يرى نفسه فيها راعي بقرٍ أمريكي «كاوبوي» يسوق الناس إلى حظيرة الطاعة العمياء والمطلقة، عبارة عن جهاز دولةٍ قويةٍ متحصنة، سهلٌ سفك الدم فيها وخسارة الحياة لأتفه الأسباب، فالمهم هو ذلك الجهاز في حد ذاته، وما الناس إلا خدمٌ له وليس العكس. مصر السيسي لا قيمة فيها للحياة البشرية، لا قيمة فيها لأي قيمة، وللأمانة فهو لم يدارِ أهدافه، فهو كأبي العباس السفاح طلب تفويضاً، وأخبرنا في مراتٍ عديدة بأن الناس (أي كل من هم خارج طبقته) سيرون الجوع، وأن ثورةً شعبية لن تتكرر.
لقد حزنت على الدكتور عصام العريان، كما حزنت على كل من قضوا في سجون السيسي، بغض النظر عن خلافاتنا السياسية، ليس فقط عليهم، ولكن علينا، لأننا في هذا البلد لا قيمة لنا ولا كرامة ولا سعر ما بقينا. حين يُستخدم القتل البطيء للانتقام والتلذذ بتعذيب المعارضين ولإرهاب الجمهور وسوقهم للطاعة والصمت في حوار العادي والعدم، فلا يوجد سوى كلمةٍ تصف هذا الوضع: الكابوس.
يحيى مصطفى كامل -كاتب مصري