هكذا تمر الأيام والشهور والسنوات، ورابعة متربعة في القلوب، مستقرة في السويداء، لم تفلح السنوات الأربع في محو قليل ولا كثير من ذاكرة ذلك اليوم الأسود في تاريخ مصر والعالم، ذلك اليوم الذي شهد علي وحشية العسكر، وتعطشهم للدماء البريئة المعصومة، واستهانتهم بالأرواح الطاهرة، وخيانتهم لله والوطن والشعب، ونكوصهم علي أعقابهم، ونكثهم للعهد والقسم، وتحالفهم مع الشيطان.
سيظل هذا اليوم في ذاكرة الدنيا، وفي قلوب الأجيال شاهداً علي انحطاط الإنسانية إلي أدني من مستوي الحيوانية؛ بصمتها الرهيب المريب علي أبشع مجزرة في التاريخ الحديث، أريقت فيها دماء الآلاف من أنبل وأزكي وأطهر من أنجبت مصر من الرجال والنساء، من الشباب والشيوخ؛ لأنهم هتفوا للحرية، وأحبوا الحياة الكريمة، وحلموا بوطن حر، ورفضوا الذل والخنوع والخضوع، وتمسكوا بالشرعية والإرادة الشعبية، ودافعوا عن التجربة الديمقراطية، ووقفوا بصدورهم العارية أمام الدبابة بكل سلمية، لا يملكون إلا إيمانهم بالله، وعدالة قضيتهم، وأخلاقية موقفهم، ووضوح حجتهم، ونصاعة تاريخهم، فكانت إجابة العسكر ما رآه العالم مما لا يستطيعه وحوش الغاب.
نعم لقد نكلوا بالمعتصمين السلميين من الرجال والنساء والأطفال بكل وحشية، وذلك علي مرأي ومسمع من العالم الصامت، الذي اكتفي بالشجب والإنكار، وكأنه تشجيع علي المضي في القتل والتنكيل، لقد شاهد العالم بالبث الحي المباشر توجيه مضادات الدروع إلي الصدور العارية للمعتصمين السلميين، وشهدوا تجريف الجثث بالجرافات، والإجهاز علي الجرحي، وحرق الأحياء والأموات، وتدمير المسجد والمستشفي الميداني، واستهداف الشباب، وقنص الإعلاميين، وقتل الأطباء ومنعهم من القيام بواجبهم، وغير ذلك من الصور المروعة البشعة التي تمثل جرائم ضد الإنسانية لا يمكن أن تمحوها الأيام.
ورغم هذا الجرح الغائر الذي لا يندمل، وهذه الصورة الماثلة الحاضرة بكل بشاعتها وذكراها المؤلمة، ورغم الدماء التي لم تجف منذ ذلك اليوم، وتنتظر يوم القصاص العادل… رغم كل ذلك وغيره مما يعجز القلم عن وصفه، ستبقي رابعة رمزاً للحرية في أرجاء المعمورة أبد الدهر، ستتعلم الدنيا اليوم وغداً وإلي آخر الزمان من مدرسة رابعة، تتعلم منها العزة والكرامة، والإنسانية والرجولة، والشرف والمروءة… تتعلم منها التمسك بالمبادئ، والحرص علي الحقوق، ورفض الذل والخضوع… تتعلم منها الشجاعة والإقدام، والتضحية والفداء، فإذا ذكرتم رابعة وأهلها؛ فاذكروا القلوب التقية، والعقول الذكية، والنفوس الأبية، والأنوف الحمية، والأخلاق الرضية، واذكروا كذلك ظلم الظالمين، وعداون المعتدين، وبطش المجرمين، وتآمر المتآمرين، وصمت المغرضين، واحرصوا أن تبقي القضية حية في قلوب الناس، وابلغوا بها الآفاق، حتي يتم القصاص العادل من المجرمين ولو بعد حين.
ولا تسأموا أن تقصوا علي سمع الزمان قصة رابعة، وتوضحوا للدنيا بكل لغات العالم، وبكل طرق التعبير، وبكل صور التواصل، لماذا خرج هؤلاء الأبطال إلي الميادين؟ ولماذا وقف هؤلاء الأماجد بصدورهم العارية أمام الدبابة؟ ولماذا هتفوا: سلميتنا أقوي من الرصاص؟ ولماذا لم يعطوا الدنية من دينهم أو شرعيتهم أو وطنهم؟ ولماذا قدموا أرواحهم في سبيل الله لتحرير الوطن؟. اشرحوا للعالم أن هذه الدماء الذكية لن تضيع هدراً، ولن تذهب هباءً، وأن مدرسة رابعة ستلهم الشعب، وتذكي لهيب الثورة، وتوجج أشواق الحرية، وتصنع فجراً جديداً سيشرق سناه علي أمتنا يوماً مهما طال الزمن وكثرت التضحيات. والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.