تحليل أفقي لمعارك النبي في رمضان (1-2)

كتبه

يحلو للبعض أن يمضي وقتا مختلفا في رمضان ما بين القص والسرد ومتعة الاستدعاء للتاريخ بما فيه من عظات وسنن، واليوم نخرج معكم في رحلة تأملية، نعرج فيها علي المعارك التي خاضها النبي “صلي الله عليه وسلم” في رمضان، ونحاول أن نقرأ منها بعض الرسائل بشكل أفقي، أي بعد النظر إليهم جميعا كوحدة متكاملة وليست أحداث متباعدة ومنفردة..

* الزمن .. أول الرسائل..

تتمثل المعارك التي خاضها النبي “صلي الله عليه وسلم” في رمضان في اثنتين رئيسيتين هما: غزوة بدر 17 رمضان- 2هـ- وفتح مكة 10 رمضان- 8هـ، أما الحدث الثالث فقد كان عودة جيش العسرة من غزوة تبوك في 26 رمضان- 9هـ؛ ويجدر بنا هنا أن نري التوقيت الرمضاني بما يتعدي كونه مجرد التاريخ التي وقعت فيه تلك الأحداث، لأنه ربما كان ذلك إشارة علي هذا الاتصال الوطيد بين معارك النفس ومعارك الميدان، فرمضان في الأساس قائم علي الترفع والتعالي عن كل معني أرضي، وتجاوز احتياجات ومطالب الجسد إلي النفس وتهذيبها وتعويدها علي امتلاك ناصيتها لا أن تتملكها الأهواء والأعراض، ثم تأتي معارك الميدان لتؤكد ما تربت عليه النفس، فإذا كانت هي في معارك الذات قوية، فإذن سوف تكون في معارك الميدان واختباراته أقوي وأنجح..

أما إشارة الزمن الثانية فهي أنه وفي بعض الأحيان لا يكون الإنسان علي وضع استعداد لتلقي بلاء ما؛ بحيث يري أنه أضعف من التحمل سواء من الناحية الجسدية أو النفسية، أو من ناحية الظروف المحيطة، ففي “بدر” خرج الصحابة الكرام وفي توقعهم أنهم مقبلون علي سرية مثل ما سبقها من سرايا، ومن ثم فقد ظن بعضهم أنه وبعد رحيل عير قريش فعليهم هم أيضا العودة لا النفير والتصعيد، لكن القدر الإلهي كان يحمل لهم ما هو أبعد من هذا بكثير… وفي تبوك لم يختلف حال المسلمين كثيرا فقد كان الفقر مايزال هو الغالب عليهم، بل إن قلة الزاد والكساء كانت لربما تحمل علي الرثاء لحالهم، لا إلي دفعهم إلي القتال وفي خارج أراضيهم بل ويواجهون قوة كان مجرد السماع عنها يوشك أن يزلزل شيئا من ثبات القلوب..

ومع ذلك وفي الواقعتين كان النفير.. و معه كان تسليمهم به بل واقبالهم عليه مختارين غير مقهورين، حتي قال “سعد بن معاذ” للنبي-صلي الله عليه وسلم- قبل بدء معركة بدر:” فوالذي بعثك بالحق، إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك،ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء..”(تفسير ابن كثير)؛ وما تجدر الإشارة إليه هنا أنه وفي بعض الأحيان تأتي الامتحانات علي حين غرة، وليس كل امتحان قد واعدنا علي موعد سابق، واليوم تباغتنا علي مستوي الأمة صعاب وتحديات متلاحقة متتابعة، وعلي مستوي الأفراد قد نستيقظ علي أخبار الاستشهاد أو الاعتقالات والانتهاكات التي لا تنتهي وتأتي مفاجئة، والمهم هنا هو تلك الجاهزية النفسية التي تتلقي القدر بالتسليم والصبر، بل وبالهدوء وراحة البال، التي يعلم صاحبهما ويوقن أنه وطالما كانت اليد يد القدر، فهي التي ترتب وتدبر، ويبقي علي الإنسان فقط الإنشغال بعدم التقصير فيما ملكته يديه من أسباب استطاعتها، وعدم التهاون في تربية القلب وتعويده علي أن دار البلاء كما يحلم فيها بعافية وخير، عليه أن يتوقع منها كذلك البلاء غير المحروم الأجر إذا هو صبر وأذعن واحتسب..

* “الشوكة”.. وفقه مستلزمات دعوة الحق

يقول الله تعالي في معرض عتابه سبحانه علي ما لاح في بعض القلوب أول الأمر من عدم استحسان الدخول في معركة حيئنذ مع الخصم وقت “بدر” : “وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ” (الأنفال: 7)..

إن البعض قد لا تكتمل في عيينه النظرة إلي طبيعة معركة الحق ومقتضايتها، فيظن أنها ربما أتت يسيرة سهلة، وكان الطريق إلي لحظة التمكين ممهدا بالورود معبقا بعطر الياسمين والرياحين..ولكنها السنة التي تعلن عن نفسها بقوة في الوقائع التي مر بها النبي “صلي الله عليه وسلم” وصحبه الكرام، فحتي هؤلاء تبدت لهم الشدائد والصعاب، ولم يُمَكّن لهم حتي ابتلوا بتلك “الشوكة”، وما تعنيه من دلائل علي كافة المعاني الشاقة والآلام..وهنا لابد أن يقف داعية الحق مع نفسه يستوضح منها مقصده الحقيقي من السير في هذا الطريق، فلا يعقل أن يلاقي كل هذا العنت، ثم لا تكن وجهته بعد ذلك لأجل نصرة الحق والدين، فإذا لم تراجع النيات، وتتضح المقاصد، وتسلم القلوب، لعاني الفرد وذاق المرارة والأحزان، ولما تأمّل بعد ذلك من مثوبة الآخرة وجزائها، فإذا اتضحت النية وخلص الرجاء، فلتنشط مواطن الإدراك والفهم وتعي كُنه الطريق ومحنه المنتظرة، واليوم وثقنا بالفعل قيام قوات الانقلاب بمساومة الشباب في المعتقلات علي حريتهم مقابل التوقيع علي ما يفيد مصالحة الانقلاب وطلب العفو منه، ثم ما لبثت إدارات السجون أن أذلت الشباب الذين قبلوا ووقعوا علي تلك الوثائق واتهمتهم بأنهم بلا مبدأ، ثم لم تفي بوعد خروجهم كما ادعت إلا لحالات نادرة وبعضها قارب موعد الإفراج عنه (حدث هذا بالفعل في مجمع سجون طرة بالقاهرة)، فإذا كان من البديهي القول بأن المعتقلات بها من المعاناة والظلم ما بها، فلننظر لها بقراءة “بدرية” فعلها هي “الشوكة” التي لاتنفك عن دعوة الحق، فلتضح في عقولنا طبيعة المعركة، ولنوطن ذوينا وأهلنا علي الثبات والصبر..

يحلو للانقلاب أيضا أن يثير شيئا من أحاديث “المصالحة المزعومة” ويختبر فيها قلوب البعض بفكرة التلويح بخروج المعتقلين؛ يظنون أنهم بذلك سوف ينهوا الأمر ويستتب لهم الطغيان والاستبداد كما شاءوا، في حين أن العودة لأصل الأمر من البداية لا نجد فيه أن هؤلاء المعتقلين أنفسهم قد لاقوا ما لاقوا، ولا قُيدت حرياتهم، ولا مضت من أعمارهم ما مضي خلف القضبان، ليكون كل الثمن، هو مجرد التمسك بخروجهم، فقد كانت لهم أهداف وآمال أكبر من ذواتهم بكثير، وعسير علي صاحب المبدأ أن يتراجع لتحقيق أمن ذاتي أو مستقبل شخصي، فهي “الشوكة” التي وعاها صاحب القضية، بل واستحث أقدامه علي السير فوقها مهما أدماها طول الطريق…ولتكن نتائج كل من “بدر” و”تبوك” سابق البشري بالخير والظفر..فليست القصة في شكل المعركة وطبيعة الميدان، وإنما الأمر يتعلق بانحيازات الفرد وعمله الدوؤب من أجل ما يعتقد أيا ما كانت خطته الإستراتيجية في مواجهة الخصم.