عامر شماخ :
اتصل بى صديقى المحبط بعد انقطاع دام سنتين، وكان هذه المرة -على غير عادته- مبتهجًا سعيدًا! ماذا جرى يا صديقى؟ وما الذى غيّر حالك وقد كنت يائسًا قنوطًا لا ترى فى الأفق غير الضيق والعسر؟
قال: أولم تر؟ أولم تسمع؟ لقد اقتربت نهاية الظالمين وكنت أظنها لا تقترب، أنا سعيد ومبتهج لأننى أحسست -لأول مرة- أن الشعب كله يعادى هذا النظام الفاشى، على غير ما كنت أتصور، كنت أظن أنه (لا فائدة!)، ثم اتضح بعد المؤتمر الفاضح لقائد الانقلاب أننى كنت مخطئًا، وأننى أرهقت نفسى فى جلد الناس وصب لعناتى عليهم، واليوم أسمع لك يا صديقى وأقدر ما نصحتنى به.
قلت: هذا ما قلته لك على مدى سنوات مضت، قلت لك لا تيأس من روح الله فإن ذلك ليس من خلق المؤمنين، وقلت لك اصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وقلت لك كن مع أهل الحق؛ الزم غرسهم ولا تعد عيناك عنهم، ودر معهم حيث داروا؛ فإن صاحب الحق لا يضل ولا يشقى.
هل تذكر يا صديقى يوم توليت عنى وسفّهت قولى؟ فى هذا اليوم دعوت لك كثيرًا، وأسفت لحال اليأس التى كانت تسيطر عليك، لكننى لم أفقد الأمل فى عودتك؛ لعلمى بإخلاصك وزهدك، ولكم فرحت بهذه العودة؛ لأن لها ما بعدها، فإنك هذه المرة قد استوعبت الدرس، وعلمت أن الحق أحق أن يُتبع، وأنه الأقوى، والأبقى، وأن الباطل لا قدم له، وأنه زهوق، وأنه منهزم من دون شك، غير أنه يحتاج من أهل الحق صلابة ومنعة، وثباتًا وصبرًا، وصلة بالله وبكتابه لا فتور فيها ولا كسل.
إن من خطط أهل الباطل يا صديقى نشر اليأس بين الناس؛ فلا ناصر لهم إلا هو والشيطان؛ فلذلك يدجنون الدعاة والثوار، يستخدمون معهم أسلوب (العصا والجزرة)، ثم ينشرون ذلك على الملأ، فيتأخر المتقدم، ويكسل النشط، ويظن العوام أن المجرمين أهل حق، وأن المصلحين أهل باطل؛ لما رأوا الدعاة والثوار يتحدثون بلسان الظالمين، وهؤلاء فى الحقيقة لم يعودوا دعاة ولم يعودوا ثوارًا، بل صاروا أعوانًا للظلمة، يجرى الكذب على ألسنتهم كما يجرى الماء فى فى السقاء.
يا صديقى! لقد غرتك الاعتقالات والتصفيات، وغرتك قسوة المجرمين، وغرك سلاحهم وقوتهم، كما غرتك الانقسامات فى صف المصلحين، وظننت يا صديقى أن ذلك لا نهاية له، وهذا مناف لناموس الله وقانونه، ولم تنظر فى المقابل لطائفة الثابتين الصادمين، الذين اشترى الله أموالهم وأنفسهم؛ فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا، نسيت هؤلاء جميعًا، ونسيت أن عين الله يقظة لا تنام، وأنه ما امتحن هؤلاء إلا ليميز الخبيث من الطيب، وليتخذ منهم شهداء، أما العاقبة فهى لمن اتقى وصبر، ولمن استعان بالله ووثق فى عهده وموعوده.
لا تقل يا صديقى لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، بل ادخل عليهم الباب وسل الله العون، وادع الله: ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين، واعلم يا صديقى أن لك طاقة لا بد أن تؤديها، وجهدًا لا بد أن تبذله؛ فإن فعلت وتأخر النصر فلحكمة يعلمها الله، فلا تعتمد على جهدك وطاقتك فحسب، بل اجعل الله نصب عينيك فى كل حركة تخطوها؛ فإنه من ينصر اللهُ فلا غالب له، ومن يخذله فلن تجد له وليًّا ناصرًا.
إن أفضل الجهاد يا صديقى هى كلمة حق عند سلطان جائر كما ورد عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم- وإن الشجاعة لأداء ذلك لا تتطلب قوة كقوة عمر ولا عزوة كعزوة حمزة، إنما تتطلب قلبًا زكيًّا وإيمانًا قويًّا، ما جعل ابن مسعود، الضعيف خالى العزوة -إلا عزوة الدين- يقوم بما قام به الفتِّيَان عمر وحمزة.
اعلم يا صديقى أن هؤلاء الأقزام لن ينجحوا فيما فشل فيه فرعون وقارون وهامان، ولو نجحوا لقامت القيامة؛ فإن وعد الله لا يُخلف، وقوانينه لا تتقدم أو تتأخر؛ فأما فرعون فأهلكه الله على غير توقع، وجعله لمن بعده آية، وأما قارون فخسف الله به وبداره الأرض فى غمضة عين، ولم يعد لهامان جنود ولا أثر.
استعن بالله يا صديقى ولا تعجز، وداوم النظر فى كتاب الله وسنة النبى وسيرته، وقف عند قول الله تعالى (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) [إبراهيم: 10]، وتدبر معناها، وقلِّب صفحات السيرة؛ ستعلم أن الملعون أبا جهل نذر ليشرب الخمر على عزف القيان وقرع الطبول احتفالاً بالنصر على محمد –صلى الله عليه وسلم- فإذا به يُذبح كالشاة، وتعود القيان إلى مكة نائحة على سبعين من أعيان قريش، وستعلم أيضًا أن ثلاث سنوات فقط فصلت ما بين غزوة الأحزاب وفتح مكة، وشتان بين الموقفين؛ موقف تزلزل فيه المؤمنون وزاغت أبصارهم وبلغت قلوبهم الحناجر، وموقف آخر علت فيه راية المؤمنين فلم يبق فى مكة فارس ولا راجل يواجههم (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 17].