القدس في الذاكرة الحضارية

تحتل القدس في الذاكرة الحضارية للعرب والمسلمين رمزية خاصة بفعل الدين والتاريخ ومركزيتها في الصراع بين الأمة وأعدائها ،فالقدس في ذاكرة المسلمين هي أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم ،والقدس في تاريخ الأمة هي جوهر الصراع بين المسلمين وأعدائهم ،إذا تحررت كانت عنوانا لعهد من النصر والتمكين وكانت موئلا للعباد والعلماء والصلحاء ومنارا للتسامح ،وإذا اغتصبت  ظلت ذكراها حاضرة في مجالس العلماء وانتاج الأدباء ومنابر الخطباء وعنوانا للإصلاح والتغيير ودافعا للحشد والإعداد .

الرباط الوثيق بين مكة والقدس  

لقد كانت معجزة الإسراء والمعراج بداية الرباط الوثيق بين مكة مهبط الوحي و حيث المسجد الحرام وبين القدس أرض الرسالات والمسجد الأقصى المبارك ، لقد أدرك المسلمون معنى الرباط القرآني بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، وكيف جعل الله هذا الرباط آية من آياته، وليس مجرد امتداد للأرض والتراب “سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرم إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آيتنا إنه هو السميع البصير”

“إن هذا الرباط لايجعل من المسجد الأقصى وما حوله في القدس وفلسطين مجرد أرض ولا مجرد حتى مسجد، بل هو شرط؛  من شروط وحدة وكمال واكتمال الدين الإلهي الواحد ، وليست القدس مجرد أرض متنازع عليها ،أو متفاوض فيها لوطن أو قومية ”

الإسلام والاهتمام المبكر بالقدس

بعد حادثة الإسراء والمعراج وما جسدته من معاني ارتباط الدعوة الإسلامية ببيت المقدس ،جهز النبي صلى عليه وسلم جيش مؤتة وبعثه إلى الشام لمقارعة الروم الذي اشتبك معهم الجيش الإسلامي في معركة مؤتة الشهيرة التي مثلت بداية التوجه لتحرير بيت المقدس وضمه لدولة الإسلام الناشئة ،ثم أعاد  النبي صلى الله عليه وسلم  غزو الروم مرة أخرى ،وقاد هو بنفسه جيشا وصل به الي تبوك ، ولقد ذكر كعب بن مالك هذه الغزوة في احاديثه فقال:إن النبي عليه الصلاة والسلام  كان إذا أراد المسير في الغزاة ،يؤذن بالمسلمين بالجهاد ،ويكتمهم  أين يجاهدون مكيدة للعدو ،إلا في غزوة تبوك التي كان يرأسها بنفسه فقد بينها للمسلمين وقال :يا أيها الناس إني أريد الروم .

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قبل تحرك  جيش أسامة؛  حرص ابوبكر الصديق رضي الله عنه رغم تحديات الردة ومنع الزكاة على إنفاذ وصية النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث جيش اسامة ليبقى تحرير القدس هو البوصلة المستقبلية لدولة الإسلام .

رمزية الفتح والعهدة العمرية

لقد تجلت مكانة الأقصى عندما عامله المسلمون على مر التاريخ – معاملة الحرم الذي لا يجوز فيه القتال، فالحرم المدني فتح بالقرآن، والحرم المكي فتح سلما ،حتى لقد دخله الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الفتح الأكبر ساجدا على راحلته ،شكرا لله، والحرم القدسي حرص المسلمون على فتحه سلما وصلحا، وجاء فتسلم مفاتيحه الراشد الثاني الفاروق عمر بن الخطاب 15هجرية 636 م ،الذي كتب لأهل إيلياء (القدس) العهدة التي حفظت الحقوق ورسخت ثقافة التسامح الديني.

 

القدس مقياس الأمة  

لقد شاءت إرادة  الله عز وجل أن يجعل من مكة حرما خاصا بالمسلمين وتولى الله حفظه وحمايته ، ولذلك عندما هاجمها أبرهة الحبشي بعث الله عليه الطير الأبابيل التي أهلكته وجيشه وجعلتهم عبرة لمن يعتبر،أما القدس فهي مدينة مفتوحة لأصحاب الديانات المختلفة مكفولة لهم – في ظل دولة الإسلام – شعائرهم ومقدساتهم ، وقد جعل الله عز وجل  حمايتها مسؤولية الأمة وموضع اختبار وامتحان لأجيال المسلمين المتعاقبة ، وهكذا كانت القدس على مر تاريخ المسلمين مقياس معبرا عن حال الأمة. يقول الدكتور محمد عمارة :” لقد كتب صلاح الدين الأيوبي إلى الملك الصليبي ريتشارد قلب الأسد (1157-1199م) فقال :”القدس إرثنا كما هي إرثكم ..من القدس عرج نبينا إلى السماء وفي القدس تجتمع الملائكة ، لا تفكر بأنه يمكن لنا أن نتخلى عنها كأمة مسلمة ،أما بالنسبة إلى الأرض، فإن احتلالكم فيها كان شيئا عرضيا،وحدث لأن المسلمين الذين عاشوا في البلاد حينها كانوا ضعفاء ..ولن يمكنكم الله أن تشيدوا حجرا واحدا في هذه الأرض طالما استمر الجهاد.

القدس جوهر الصراع

في تاريخ المسلمين وفي ذاكرتهم الحضارية القدس هي جوهر الصراع مع قوى الشر والطغيان، ولذلك انتزعها المسلمون من أيدي الروم وكان فتحها إيذانا بانتصار الإسلام وتحرير الشام ومصر وشمال إفريقيا من قبضة الرومان الذين استضعفوا شعوب هذه الأمصار وداسوا كرامتها، فدخلت في الإسلام أفواجا بعدما رأت فيه التوحيد والخير والرحمة والتسامح، ووفق هذه الرؤية  جاء الفتح الثاني للقدس على يد صلاح الدين الأيوبي عندما استردها من الصليبيين (583هجرية 1187م)..بعدما يقرب من تسعين عاما احتكروها فيها وانتهكوا حرمتها وقدسيتها .

ولقد كانت القدس الشريف  على مر تاريخ الصراع بين الغرب الصليبي والشرق الإسلامي  هي رمز هذا الصراع ..وهي بوابة الانتصارات ..حتى لقد لخص الشاعر العماد الكاتب (519-597هجرية 1125-1201م) هذه الحقيقة من حقائق استراتيجية هذا الصراع ،عندما قال لصلاح الدين الأيوبي :

وهيجت للبيت المقدس لوعة **   يطول بها منه إليك التشوق

هو البيت ،إن تفتحه والله فاعل ***  فما بعده باب من الشام مغلق

وفي ظل التغيرات الهائلة الجارية في البيئة الإستراتيجية للكيان الصهيوني الغاصب ،فإننا  نقترب أكثر من تحرير القدس الذي أضحى مسألة وقت لا أكثر ، وسيكون التحرير القادم للقدس – كما كان دائما – عنوانا لمرحلة جديدة من في تاريخ الأمة المتطلعة إلى لعب دور عالمي يناسب رصيدها الحضاري والاستراتيجي .