الصرخة البكماء .. بقلم أ / فجر عاطف صحصاح

امتلأ أفق السماء بالليل الحالك، واختفت حتى أشعة الغروب الدافئة، وانزاحت السُحب والنجوم من مرمى البصر، تاركة مكانها لتلك الستارة السوداء المُدْلَهِمَّة، ورغم أن أشعة الضياء ممنوع عليها تماما أن تزوره في محبسه فإنه كان على موعد دائم مع وهج ضياء من نوع آخر، يتفاهمان معًا بتلك الحاسة الفطرية شديدة الانتباه واليقظة للغة الكون، تلك الحاسة التي يجيد معها الانصات إلى ما يعتمل توالي الأيام والليالي من معانٍ وأسرار، وما قد تنطوي عليه السُحب من ماء مُنتظَر لا يراه الكثيرون، ومن ثم فلم يكن من الغريب أن يستنشق شذى الليل المدلهم ويعرف أن النهار قد اِسْتَأْذَنَ في الرحيل ولكن إلى حين، وأن على عينيه الآن أن ينعسا حتى يصافح بهما غدًا النهار في قوة ونشاط.

ولكن أنّى له ذلك.. فدقات قلبه السريعة كانت ترفض هذا الاستسلام لطلب الراحة والنوم، فقد عرفت أن غدًا موعد الزيارة الأولى له منذ أن حلّ أسيرا في سجن العقرب، ومن ثم فقد قرر قلبه أن يصيح وأن يتقافز فرحًا حتى كادت بقية الزنازين تسمع وقع هذا الاحتفال الصاخب رغم الأبواب المصفحة والنوافذ المترسة!.

ستة أشهر كاملة انقطعت فيها صلته عن العالم من حوله.. ستة أشهر والقلق يعتصر فؤاده على أمه أحب وأغلى الناس على قلبه.. فمخيلته منذ يومها لا تكاد تتسع من الحياة لأكثر من تفاصيل تلك اللحظة الأخيرة التي عرف فيها وجه أمه كما لم يعرفه من قبل، بل كما لم تقع عيناه على مثيل له في البشر أو حتى قريب الشبه؛ فقد كانت تقاسيمها حينها تحمل أكثر من مجرد ملامح أو خطوط، فكأن صفحة من نضال البشرية وتاريخ السابقين والقادمين قد اختارت طوعا أن تتخذ من هذا الوجه دفترا يحتويها وسطورًا تحمل كلماتها فتنطبع عليه، فإذا كان تاريخ البشر هو هذا الذي يُحكى من تتابع الأحداث والوقائع ودور كل فرد على قدره في ذلك، فقد انعكست في هذا الوجه يومها كل معاني البطولة والقوة، عندما اتضح فيه بلا مواربة هذا المزج النوراني بين التجلد والبكاء، تباغتها الدموع.. تريد أن تنفك من أسر جفونها وتسقط لتهون عليها الألم؛ في حين أن قوتها وشموخها تقفان حائلا دون مظاهر الضعف أو الانكسار أمام قوات الانقلاب التي تختطف ابنها الوحيد والذي ما عرف معنى الشبيبة ومفارقة حضن أمه سوى بالأمس القريب فقط.

لا ينتوي بالطبع أن يعيد على ذاكرة أمه قسوة ومرارة تلك اللحظة، وليس بفاقد عقله ليحكي لأمه المُحبة ما ألمّ به في تلك الأشهر التي نالت من جسده ولم تنل من يقينه ومضاء عزمه، يسترجع بثبات ما عزم على أن يتحدث معها فيه؛ حيث سيسألها عن مرضها وهل تنتظم في جرعات الدواء التي كان يعطيها هو لها أم لا، سيشدد عليها أن تضع الدواء بجوار مصحفها حتى تتذكره عندما تبدأ في تلاوة وردها اليومي، أيضًا سيتطرق على استحياء إلى السؤال عن تلك المشكلات الإدارية التي تحول بينها وبين استلام معاش والده، وسيخبرها أن تقترض مبلغًا من صديق مقرب له لن يبخل عليه وسيعيده هو له بعد أن ينفك أسره بإذن الله، سيُذكرها أن تتناول طعامها ولا تزهد فيه لأنه ليس معها، وسيطلب منها راجيًا أن تشتري لنفسها معطفًا جديدًا هدية منه في ذكرى يوم الأم!.

كان يحلم بأبعد من كل تلك الكلمات؛ كان يحلم أن يرتمي في أحضانها ويبكي حبا وشوقا؛ هذا الحضن الدافئ الذي كان يخجل أن يرتمي فيه بعد أن جاوز الصبا؛ الآن يتذكره كنسمات رطبة لأيام الطفولة النضرة الحالمة، كيف استطاع أن يحرم نفسه من هدهدة أمه له وصوتها الحنون الدافئ والذي كان يُسّكن قلق روحه واضطراب نفسه.. أخيرا اتخذ قراره بأن يبلل يديها بدموعه وأن يعبر لها عن امتنانه وحبه..

وعلى حين غرة.. انطرحت عنه تلك الأحلام بقسوة؛ فقد تذكر أن التعذيب الذي تعرض له لن يمكنه من أن يحتضن أمه أو يسمك يديها ليقبلهما؛ فكثرة الصعق الكهربائي، ثم التعليق المتصل لمدة تتجاوز اليوم بالليلة، مع تكرار هذا الوضع علي فترات، كل هذا قد ترك في أعصاب يديه ضعفًا لا يمّكنه من رفعهما أو إمساك شيء بهما، ولكن أنّى له الحزن أو القنوط؛ فيكيفيه أن شوق أمه سيحملها هي على أن تحتضنه فيبكيان معًا ما اختزناه من مرارات القهر وعذابات الظلم ولظي السجان!!.

ساعات الليل تمضي بطيئة قاسية، وكأن تلك الليلة هي أطول ليالي السجن وأقساها قاطبة؛ وعلي الجانب الآخر من هذا الليل الحالك؛ كانت هناك سيدة مسنة تتوكأ على عصاة غليظة، وكأنها من قسوة الطريق وعناء الأوجاع هي التي تحمل العصاة وتسير بها علي عجل بأكثر مما يحتمله سنها وألمها من طاقة وقوة؛ كانت تتحامل لتحجز لنفسها مكانا للمبيت على الرصيف المقابل للسجن؛ فقوات الانقلاب لا تسمح بأكثر من 30 زيارة في اليوم، ومن ثم وجب عليها المبيت في الشارع حتي تكون في مقدمة الصفوف التي يُسمح لها بالزيارة صباحًا.

دبّ الصقيع قاسيا على هذا البدن الضعيف الملقي على الأرض، والذي لم يعد يشعر فارقا بين رعشات البرودة أو لهيب الصيف، فحرقة القلب المؤرق لا تدع لها فرصة لإدراك أنات الجسد أو آهات المرض، خاصة أنها قد أمضت كل تلك الأوقات السابقة طيلة ستة أشهر وهي تبحث عن فلذة كبدها بين أزقة النيابات والأقسام، وفي أروقة وساحات المحاكم الحاملة لكل ماعدا العدل والرحمة من قيم، ومن ثم فمن ذا الذي يقول أنه بإمكانها الآن أن تضيع فرصة زيارته أو حتى تغامر بها، فهي على استعداد لأن تبيت متوسدة أعتى ما في الدروب من حجارة وعرة، شهورًا بليالٍ وليس فقط ليلة ظلماء باردة.

وها هي اللحظة قد حانت؛ فتح السجان الزنزانة ونادى على أسيره: أن قد جاء دورك للزيارة؛ انبري ركضا لا يعرف إذا كان يسير علي يديه أم قدميه، وكاد ينفلت من يد سجانه من شدة تحليق روحه قفزا من الفرح..بعد لأي وجد نفسه في غرفة معزولة خلف ألواح من الزجاج، بُهت وكأنه في كابوس خانق لم ير مثله من قبل؛ أخذ يتحدث مشدوها إلي السجّان ويؤكد له أنه اليوم علي موعد مع الزيارة، وأنه لابد أن يذهب إلي حيث يستقبل والدته التي من المؤكد أنه قد أضناها الانتظار، ولكن… وبملامح صادمة لا تعرف سوي القسوة والعنف، أرداه السجّان علي مقعد خلف اللوح الزجاجي وقال له أن هذا هو مكان الزيارة لمن في العقرب..!!

تحامل علي نفسه من هول الصدمة، وبات يتصبر بأنه و إن كان قد حُرم من الارتماء في أحضان أمه أو تقبيل يديها؛ فيكفيه أنه سيستمع إلي دفء صوتها وسيُفضي إليها، فيُطمئنه احتسابها وتجلدها..

وأخيرا فقد رأي أمه؛ وقفت علي الناحية الأخري من الزجاج في انتظار أن تستمع إلي ولدها لتطمئن عليه، أخذ يتحدث ويتحدث وكأنه تلميذ نجيب يستذكر كل ما حفظ، وفجأة انتبه علي إشارة من أمه فهم منها أنها لا تسمع شيئا، فأخذ ينظر حوله حتي أدرك أن الزجاج عازل للصوت، وأن عليه أن يمد يده ليأخذ سماعة الهاتف فيتحدث فيها، حاول أن يقف ليلتقط السماعة لكنه لم يفلح، حاول مرارا وتكرارا لكن يديه العاجزتين عن الحركة من شدة التعذيب منعتاه من رفع السماعة، كان يري أمه علي الجانب الآخر لا تفهم ماذا يحدث، تمسك بكلتا يديها بسماعة هاتفها وتتحدث بصوت مرتفع وتشير إلي ابنها أن يرفع الهاتف علي الجانب الآخر… لكنه لا يفعل… بدأت لُحيظات الزيارة في العد التنازلي، وحتي الآن لم يتمكن من رفع سماعة الهاتف…..!

تعالت صيحاته وصارت صرخات مدوية، تراها الأم ولا تفهم سببها أو معناها، تنهمر دموعها علي سماعة هاتفها وتصرخ هي الأخري، لكن الابن لا يسمع، فقط يري قلقها ولا يعرف بما يقابله…. فجأة… أعلن السجّان انتهاء الزيارة، انهار الابن وأخذ يثب في الهواء ويتقلب يمنة ويسرة، قابلته دموع أمه علي الجانب الآخر وقد امتلك قلبها الآن قلق لا يقل عن قلق رحلة البحث في الستة أشهر الماضية…. لم يتخيل الابن أن الأمر قد انتهي وأن عليه الآن أن يودع أمه والتي لم ترتو عيناه من رؤياها، بات كل ما يمتلكه هو الصراخ

أخذ يصرخ ويصرخ ويعلو صراخه… يصل إلي أمه ألمه وقهره فتقابله بالدموع المنهمرة، والقلق المضطرب… في حين أنه صراخ أبكم لم يستطع أن يوقظ قلوب سجّانيه ولم يؤرق مقعد نوم ضمائرهم…!.