“الزمن” و”القضية” “والتضحية”… أمانة ثورة أداها الإخوان

من العسير الحديث عن علاقة الإخوان بالثورة بشكل موجز أو على عجل؛ فهي علاقة تمتد بعمق المعنى الثوري نفسه، واتساعه لقضية الوطن على امتداد زمني عابر للعقود.

ولكن يمكننا هنا استخدام آليات تحليل بسيطة تُقرب إلى الأذهان طبيعة تلك العلاقة التي باتت بشكل أو بآخر ترادفية يستدعي كل منهما الآخر.

تبدأ تلك العلاقة بالعمق الزمني منذ تأسيس جماعة الإخوان؛ حيث الارتباط الذي لا فكاك منه بين معنى الإسلام ومنهجيته ومرجعيته للكون والحياة، وبين تطبيق هذا المنهج في الحياة بما يعنيه من قيم الحرية والعدل والمساواة والشورى، وهي جميعها قيم شديدة الالتصاق بالممارسات الاجتماعية والسياسية المختلفة التي تفتحت أعين الإخوان عليها، ففقه الدين لا ينفصل في منهجهم عن فقه الحياة، بل هو إطار للممارسة الحياتية وليس انفصالا عنها، كما أن أنين الشعب الذين هم جزء منه يحدوهم دوما إلى البحث عن سبل للخلاص له ليحقق ما هو جدير به من رغد عيش وأمان ومستقبل مشرق.

خاض الإخوان لتحقيق تلك المآرب كافة السبل المتاحة، وكان منهجهم الإصلاحي في ذلك يبحث عن كافة الثغور ليقف عليها، فيؤسس الجمعيات الأهلية ليمد من خلالها يد العون لكل محتاج، وينشئ المستشفيات ومراكز الرعاية والعلاج في سعي مباشر لحل مشكلات الناس الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن مؤسسات التربية والتعليم والمدارس والمساجد والتي كانوا يعملون فيها على تنشئة أجيال تعرف معنى المبدأ والقيمة، ويتأصل بداخلها مشاعر المسئولية والإيجابية والعمل.

استمر سعي الإخوان في تأسيس الإنسان الحاضن لقيم الحرية والعدل، وهم في سعيهم هذا يحرصون على زرع القيم ونشرها لا على أخونة المجتمع وضمه إليهم، فما كان يعنيهم حجم التنظيم بقدر ما كان يعنيهم سيادة المبدأ، وتحرير الأفراد.

وتواصل العمل في الشق السياسي المباشر كما كان في شقه الاقتصادي والاجتماعي، فالمرجعية والرؤية الجامعة للحياة لا تتجزأ، وحرية الإنسان لا تعني كفايته بقوت عاجل ليومه، ولكنها تعني التأسيس المستمر والممتد بجيل يرث جيلا في أمة قوية بها من القوانين والتشريعات والنظام الحاكم ما يضمن تحقيق الحرية والعدالة، فحتى الدين نفسه يتأسس بداية على حرية الاختيار والاعتقاد، وإلا لما كان هناك معنى لإيمان شكلي ظاهري لا يقره القلب ويحويه عن قناعة.

تحاضنت بيئة الإخوان العاملة النشطة تلك مع فئات المجتمع جميعها، وعملت هي وغيرها من أصحاب المبادئ من التيارات الأخرى على صناعة أرض خصبة لمعنى المعارضة الراشدة، والتي أسهمت في فتح آفاق التفكير والمناقشة والاطلاع على تجارب أخرى تاريخية ودولية.

كل ذلك حتى زاد الاحتقان العام في المجتمع من شدة المظالم وغياب أفق المستقبل الأفضل، كانت الثورة في نفوس الشعب موّارة تتداعى أسبابها كثيفة متعاقبة حتى انفجر البركان وانتفض الشعب المصري رافضا مُصرا على التغيير الكلي والشامل، والإخوان في ذلك بمحل القلب من هذا الشعب الذي انفجر، أما قرارهم الرسمي كمؤسسة فكان الانحياز التام لانتفاضة الشعب والوقوف جنبا إلى جنب معه في الميدان، وهم في ذلك لم يتخلوا أبدا عن مبدأ الإصلاح لديهم بل مارسوه بمعناه المناسب للمرحلة، والذي يشير إلى تحري وجه المصلحة، والتي اقتضت مؤازرة الشعب كتفا بكتف، والقضاء الجذري على مظاهر الفساد والاستبداد المستشري، بل إن منهجيتهم في هذا الإصلاح التحتي هي التي ربت تلك الأجيال على المبدأ والقيمة، وهي التي أفرزت هذا الحراك الإيجابي الباحث عن حرية أوطانه، اجتهد الإخوان في الميدان كي يستمر الشعب محافظًا على سلميته وصبره، فلا يحمل سلاحا أو يسيل دماء أو يُحدث جراحا من الصعب بعد ذلك أن تندمل، ولذا فقد كانت فطنة الإخوان حينها هي المساهمة في صناعة “الثورة البيضاء” تلك زاهرة مبهجة مرتفعة الهامة محلا للاقتداء والتبجيل.

اجتهد الإخوان بعد ذلك مثل غيرهم في الممارسات والأحداث، حتى اقتضى الأمر أن يكونوا هم في مهب الريح، يأخذون الجرعات الأولى من الألم والمواجهة مع الدولة العميقة، وأصحاب المصالح، والمؤامرات الدولية والإقليمية، ما جعلهم بالفعل يقفون ليتلقوا هم تلك الضربات الموجعة بعد تحمل تبعة الحكم والرئاسة، وهي الأمانة التي يحلو للبعض النظر في بريقها الزائف، في حين أن أعماقها المؤلمة وباطنها الموجع جعلا الإخوان يقدمون عليها تحملا للمسئولية وسعيا لتحقيق الحلم الثوري للشعب الكريم، وبالفعل فقد أيد الشعب مسعاهم واختارهم ووثق بهم، ولذا فقد كانوا وحتى تلك اللحظة ممن يعرف معنى وقدر تلك المسئولية، فلم يتنازل الرئيس المرشح من قبلهم عن تلك الشرعية وعن الأمانة التي في عنقه.

والحقيقة أن هذا الاستمرار هو أهم وأجدر ما يحسب للإخوان، فالكثيرون قد تبهرهم البدايات، ثم يتراجعون مع الثمن الباهظ المطلوب، كما قد تشغل البعض حياته الخاصة وطول الأمد الذي يحتاجه هذا الهدف الثوري المُرتجى، وحدهم الإخوان ومعهم القليل من أصحاب المبادئ ممن يستمر إلى تلك اللحظة يرفع راية الثورة التي هي خيار الشعب، ويبيع حياته ومستقبله واستقراره مطمئنا لبذله راضيا محتسبا.

ويعد المعيار الموضوعي هو الوحدة الثانية في تحليل علاقة الإخوان بالثورة، فالأخيرة هي خيار الاجتثاث للظلم واستجلاب الإعمار والنماء، وقد فقه الإخوان في ممارستهم للعمل الثوري هذا المعنى من مرجعيته القرآنية؛ حيث جاء الجذر القرآني لمفردة “ثور” في القرآن الكريم في خمسة مواضع: اثنتين منهما ارتبطتا بالأرض والإنماء والزرع، واثنتين ارتبطتا بالسحاب واستنزال المطر والاتجاه أيضا للإعمار والزرع والنماء، أما الخامسة فقد ارتبطت بمشهد حركة الخيل أو الإبل، وعليه فالثورة كمفهوم من حيث صفته فهو: “حركة وتفاعل في الكون واسعة وثّابة إما بانية من الأساس، أو بانية بعد اجتثاث الفساد”، ومن حيث مقصديته: “يسعى نحو النهوض والارتفاع والظهور، ويعمل من أجل عمارة الأرض واستنبات الخير والرحمة”، وكل هذا مما يعني أن التدمير والاقتتال المصاحب للثورات في الكثير من التجارب ليس شرطا أو واجبا بالضرورة، خاصة إذا كانت هناك جماعات على استعداد لدفع الثمن لذلك من حياتها هي واستقرارها الخاص؛ وعليه كان استبعاد الخيار الدموي، ورفع الأيدي الفارغة من سلاح التدمير، الحاملة لهم الوطن ولائتلاف واتحاد أبنائه، هو خيار حافظت عليه الجماعة منذ التأسيس، كما أن المضمون الثوري الذي يعني هموم الجماهير ومشكلاتها وقضاياها العادلة كانت دائما أولى الأولويات الحاضرة دائما لديهم، كان ذلك قبل ثورة يناير وبعدها كما هو لم يتغير فيه شيء، إلا وسيلة الأداء ومنافذ العمل والحركة.

والحقيقة أن هذا الاستمرار في البعد الزمني، والحضور للموضوع الثوري الباني لا الهادم، كل هذا يجعل وحدة التحليل الأخيرة هي المحك؛ لأنها الامتحان العسير للأهداف النبيلة، فقد كانت التضحية والإخوان شِقين لم يفترقا، فقد فُتحت لهم السجون والمعتقلات، وسيلت دماؤهم في الشوارع والميادين، وأقيمت لهم المذابح وعُلقوا على أعواد المشانق، وتحللت أجسادهم من هول التعذيب وقسوة السجان.. الأمور جميعها المستمرة إلى الآن، وهم بالرغم من ذلك ما زالوا صابرين صامدين تستمر تظاهراتهم وحراكهم وفعالياتهم التي تكلفهم أبهظ الأثمان، ولا تجد خطابا لهم إلا ويحمل معنى الثورة، ويُذكر بها، ويُحفز الشعب على الصمود والمثابرة والجلد، وقد كان ما أيسر أن يتخلوا وينعموا بالحياة الهادئة المستقرة، بل يكفيهم أن يعيشوا فقط ليلملموا جراحاتهم وآلامهم، ولهم من الأنين ما يكفي عذرا وحجة، لكنهم أبوا إلا أن يكملوا للشعب ثورته للنهاية، وأن يقفوا هم ولو بمفردهم في الميدان؛ يؤسسون بدمائهم مستقبل هذا الوطن وكرامة وحرية كل فرد فيه.