التمييز بين السياسي والدعوي .. خطوة نحو التخصص

كمال ناجي القطوي
انطلقت الدعوات الإصلاحية منذ مطلع القرن العشرين تنادي بشمولية الإسلام كرد فعل طبيعي على موجة التغريب التي دعت لفصل الدين عن الدولة، بينما كان الفقيه القانوني عبدالرزاق السنهوري يمهد ببحوثه لعلاقة الإسلام بالدولة بشكل تفصيلي فيقرر أن ثمة تمييز لا فصل بين الدولة والدين في الفكر الإسلامي إذ نشر دراسة في العام 1929 بمجلة «المحاماة» تحدث فيها عن التمييز بين الدين والدولة في الفكر الإسلامي وعارض فكرة الفصل بينهما.

(إسلامية الدولة ، محمد عمارة،124 )

بل يلمح إلى الطبيعة الاستثنائية لشخصية النبي صل الله عليه وسلم فيقول : ( وأعتقد أنه صلى الله عليه وسلم في تأسيسه الدين كان نبياً مرسلاً، وفي تأسيسه الدولة كان رجلاً عظيما).

شمولية التجربة النبوية تحتاج ورثة متعددون

ولو عدنا إلى حقبة النبوة لوجدنا التجسيد الأمثل لهذه الشمولية تمثلت في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو أقام الدين من كل جوانبه حتى قالت عنه عائشة برواية مسلم : ( كان خلقه القرآن ) . مع تمييز واضح نبه عليه النبي بين تصرفاته كمبلغ عن الله وبين اجتهاداته كحاكم أو قاض، وقد كان الصحابة يدركون هذا التمييز وحين يستشكل عليهم يبادرون بالسؤال، كما سأل الحباب بن المنذر عن اختيار النبي للموقع الحربي في بدر وكما سأله المعاذان عن فكرته للتصالح مع ثقيف في غزوة الأحزاب، هذا التمييز سجله العلماء في مدوناتهم الفقهية وكان من أشهر من أفرد له بحثاً الإمام القرافي في كتابه “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام”.

ولقد ورثت الحركات الإسلامية هذا الميراث الضخم، فانبرت للإصلاح الشامل، إلا أن طول التجربة، وتقلبات الدهر، واتساع نطق العمل، جعلت بعض الدعاة يعيدون النظر في ترتيب الشأن الدعوي، وكانت المبادرة العملية من المغرب الأقصى حيث عمدت الحركة الإسلامية هنالك إلى فصل الحزب عن الحركة الدعوية، كي يبدع كلاً في مجاله.

مبررات التمييز

والذين رأوا ضرورة التمييز بين الدعوي والسياسي أشاروا إلى عدة مبررات من أهمها:

1- تنوع قابليات البشر: وأن القادرين على الجمع بين الفريضتين باقتدار وتمكّن قليل في البشر، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم التفاوت النسبي بين الصحابة فوجههم للتخصص مع احتفاظ بمسحة شمولية تحافظ على الحد الأدنى من الواجبات الجماعية، فأبو هريرة تميّز في الحفظ ونقل السنة، وفي نفس الوقت كانت له مشاركاته الجهادية إلا أنها لم تكن بمستوى خالد بن الوليد الذي سجل رقما قياسيا في القيادة العسكرية، إلا أنه في نفس الوقت كان يحفظ القليل من القرآن ويقول لهم: شغلني الجهاد عن تعلم القرآن.

وقد لاحظ الدكتور عبدالكريم بكار أن الخلط يؤثر على جودة الأداء فقال: الخلط بين الممارستين يجعل كلا منهما عبئا على الأخرى ، ومن النادر أن يكون للشخص الواحد فتوحات روحية وسياسية في آن واحد.

2- إن طبيعة الخطاب الدعوي قائم على غرس القيم والمثاليات: بينما يرتكز الخطاب السياسي على الهموم اليومية ،والقضايا المطلبية التي يشتد فيها النزاع، فالخطاب الدعوي قائم على الكسب، بينما السياسي يقوم على الكسر والغلبة كما عبر عنه الدكتور محمد الشنقيطي.
3- إن جوعة التدين لدى الناس لا تعني قبولهم بمشروعك السياسي، فقد يقبلون بك واعظا ومربياً لأبنائهم، أما أن تزاحمهم على مصالحهم السياسية فهذا ما ينفرون منه.

4- معالجة التضخم السياسي: لاحظ المفكر المغربي الراحل فريد الأنصاري حالة من التضخم السياسي في صفوف الدعوة، فردها لانشغال الدعاة بمتابعة المجريات السياسية فطفق يدبج الكتب محذراً من هذه الحالة، فألف كتابه (البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي) ومن قبله حذر البشير الإبراهيمي من هذه الظاهرة فقال: “شغلوهم بالسفاسف الحزبية حتى أصبح المقهى أحب إليهم من الجامع، والجريدة أحب إليهم من الكتاب، والمناقشات الحزبية أشهى إليهم من المذاكرات العلمية.”

إن سياسة التمييز بين الدعوي والسياسي ستدفع بالطاقات الإسلامية والدعوية إلى خطوط الإنتاج الخلفية، التي تبني المجتمع على أسس الأخلاق وقيم الدين، ومعاني الإيمان، وحينها نكون قد أنجزنا الجزء الأكبر من المهمة الإصلاحية، ويأتي دور السياسي الموهوب المتفرغ، المليء بالقيم، الراسخ في الوعي ليناوش المشاريع الأخرى مستنداً إلى أرضية صالحة وشعب يغلب الموازين الوطنية، والمصالح الحقيقية على موازين المصلحة الآنية الضيقة.

5- الفصل يجنب الدعوي كمائن العمل السياسي :يرى الكثير ممن يقترحون فصل الدعوي عن السياسي أن ذلك يعزله عن المواجهة مع الأنظمة، التي ما فتئت تجرف المشروع الإسلامي برمته كونه يشكل قلقا وجوديا لها، فإذا ما عزل الدعوي عن السياسي فلعله يجنبه الملاحقات والتضييق، وقد لاحظنا أن الأنظمة تعايشت مع التيارات الدعوية التي لا تحترف العمل السياسي كالصوفية والتبليغ والسلفية العلمية والدعاة الجدد، بينما صبت جام غضبها على الإسلام السياسي لأنه يشكل تهديداً لها.

وقد أدرك ذلك مبكراً بديع الزمان سعيد النورسي فنهى أصحابه، وهم في مسيرة الاستئناف الإسلامي في تركيا من الخوض في السياسة حتى يكون غالب المجتمع مع ما يطرحونه، وأطلق كلمته المشهورة “أعوذ بالله من الشيطان والسياسة” وظن البعض أنه توجه دائم لحركة النورسي، بينما كان اختيارا مرحلياً حتى لا تُستأصل بذور الاستئناف في تركيا.

وقد لاحظ حسن البناء في أخريات أيامه خطورة التوغل السياسي على مستقبل الدعوة، فقال للشيخ محمد الغزالي: تمنيت لو عدت بالدعوة إلى عهد المأثورات.

آليات التمييز

تنوعت التجارب في الحقل الإسلامي ويمكن أن نجملها في ثلاث تجارب:

1- الاستقلال بالتخصص، وهي تجربة حزب العدالة التركي الذي حمل عبء العمل السياسي، وتكامل في مرحلة سابقة مع حركة فتح كولن الذي دعمها لتغطي الجانب الدعوي، إلا أن الخلاف الأخير قضى على التعاون، مما يجعل الساحة الدعوية في تركيا في حالة نقص شديد، لا يلاحظها كثير ممن أبهرتهم نجاحات العدالة التنموية عن رؤية التغيير الاجتماعي البطيء لحركة الإسلام هنالك، وهذا يحتاج من دعاة الأتراك إلى الاستئناف والاستفادة من الفضاء الذي هيأته خطوات أردوغان التنموية.

2- التخصص مع المرجعية الواحدة، وهي تجربة حزب العدالة المغربي، الذي قرر من أول يوم أن تمضي الحركة في خطها الدعوي، ويمضي الحزب في خطه السياسي دونما خلط للمهمتين، مع الإبقاء على مرجعية تشاورية وصفها الأستاذ محمد الحمداوي الرئيس السابق لحركة التوحيد “بشراكة استراتيجية”، وهي تجربة استطاعت أن تستفيد من الاستقرار السياسي في المغرب في التفرغ للإصلاح.

3- إنشاء ذراع سياسي للحركة كما في تجربة الأردن وإخوان مصر ، إلا أن تلك التجربة فشلت لتحكم الجماعة في عمل الحزب ، وحدوث تضارب كما في الحالة الأردنية.

4- تفريغ دعاة التوجيه والإرشاد والعمل الاجتماعي، وإبعادهم عن الجدل السياسي، ولعل هذه الآلية هي الأنسب في الوقت الراهن، للحركات الشمولية، لصعوبة إنشاء كيان موازي للعمل الدعوي، ولعلها خطوة إيجابية تمهد لعمل مجتمعي واسع ينأى بنفسه عن الأطر الحزبية الضيقة، بحيث ينتقل العمل الدعوي من مرحلة دعوة المجتمع ،إلى تمكين المجتمع، بحيث ينخرط الدعاة مع بقية المجتمع في بناء مجتمع مدني عابر للأحزاب والتدخلات الحكومية، كما أن الدفع بقطاع التوجيه في المساجد والمنابر العامة للنأي بنفسه عن الشأن السياسي سيلقى ترحيباً شعبياً، وبالذات بعد الاستخدام الممجوج للشعارات الدينية من جماعات الغلو والعنف التي ولدت في الطرف المقابل نفوراً من الخطاب الديني، كما شوشت على الناس الاستخدام المتناقض للشعارات الدينية من جميع الأطراف.

لقد آن الأوان أن نفكر في مجاراة فطرة الله التي فطر الناس عليها، فنوظف الطاقات كلاً حسب ميوله، وندرك أن التخصص الدعوي لا يعني التنكر لشمولية الإسلام، وكونه مرجعية الحياة، إلا أن هذه الشمولية لا يقدرها بحقها إلا الأنبياء، ودور الورثة أن يقتسموا ميراث النبوة، كلاً بقدر طاقته.