إلى من إقتحم الرصاص حياتهم

188

مريم أحمد .. طالبة جامعية

إلى من إقتحم الرصاص حياتهم

أخذت منه لحظة عشوائية للضغط علي زناد سلاحه غير عابئٍ من ستصيب رصاصته “المحرمة دولياً”، بينما أخذت تلك اللحظة حياة أسرة بأكملها . من منظوره انطلقت الرصاصة فأصابت شخصا ويبدو أنها امرأة شابة، سقطت ويبدو أنها ماتت وحملها بضعة أشخاص مسرعين، ومن كرمه الزائف أنه لم يُصب أحد منهم واستكمل بحثه عن ضحية أخرى. من منظوري، أو منظورها، انطلقت رصاصة شقت طريقها لـ “لبِّ” منزل وحياة هادئة، ولم تتوقف الرصاصة عند رأسها، استكملت طريقها لتدمر كل بوادر الأمل على مر السنين لتدمرني..

سردت قصتي تلك مئات المرات، لم تتغير التفاصيل في أي مرة، فقط تجدد الألم، لكني قد قررت سردها هذه المرة لأخرج منها بعبرة، أو بكلمات مؤازرة لأولئك الذين تشابهت حالتهم بحالتي، أو حتى لأجدد العهد بيني وبين ربي وأتذكر أن الطريق يستحق كل ما حدث وما سيحدث.  كنت قد أكملت عامي الخامس عشر حينها، لا بل لم أكمله، حدث ذلك قبل شهرين من يوم مولدي، كنت مطمئنة أن حياتي من المستحيل أن تنقلب بتلك الصورة، بل لم أتخيل صورة لحياتي بذلك المنظور، كنت مؤمنة بأن الله لا يحمل نفسا إلا وسعها، وأني شخص عادي، كنت أعرف أني مدللة منذ الصغر، لم أمر بصعاب سوى بضع مشاكل عائلية وحتى تلك لم أصمد أمامها، لكن الله قد وجد فيّ قوة لم أرها ولم يرها من حولي.

المحن تجعل منك شخصا آخر، لا أستطيع الجزم بأنك تصبح شخصا أفضل، لكن حتما شيئا بداخلك يتغير، تختلف نظرتك للأمور، وتعيش بذلك البريق الدائم بعينيك الذي ينبئ بدموع لا تفسير لها.

تلقيت اتصالاً من مجهول أخبرني بإصابة أمي، ظننت وقتها بأنها مجرد “خرطوشة ” طائشة أصابتها في ظهرها، فيبدو أن ذلك المجهول خشي على الطفلة التي حدثته من صدمة الخبر، ثم عرفت أنها إصابة في الرأس، ثم أخيرا تلقيت خبرا أن إصابة والدتي، إصابة في الرأس برصاصة محرمة دوليا، أدت لتهتك في الجمجمة ثم دخولها في غيبوبة بعد مرورها بعملية جراحية. أحكي هذا اليوم وقد مرت ثلاث سنوات وبضعة شهور، وسيمر دهرا قبل أن أستوعب كل ما مررنا به أنا وأسرتي، لن أحكي لكم عن مأساة “الأم” الجسدية، فلكم أن تتخيلوا معني أن تعيش بعد رصاصة في رأسك، مازالت بعض شظاياها يعيش داخلك، سأحكي لكم عن طفلة أكملت عامها الثامن عشر، لكنها مازالت تبحث عن تفسير ما حدث..

الجميع يراها من بعيد، تلك الصامدة، الضاحكة رغم المآسي، من المضحك كيف يجعل منك البشر بطلاً وأنت هش بداخلك. أن تعيش أمك بجانبك، لكن لا تراها، أن تشتاق لتفاصيل لا تذكر حتى محتواها، أن تحن كل ليلة وتتمني لو تسترجع يوما واحدا من أيامك التي ولت قبل المحنة والبلاء، يجعل منك هش القلب سريع الغضب، ويظل البركان بداخلك مشتعلا، توقده السقطات تباعاً، وما يلبث أن يهدأ متقبلا مرارة الأيام. المحن تجعل منك شخصا آخر، لا أستطيع الجزم بأنك تصبح شخصا أفضل، لكن حتما شيئا بداخلك يتغير، تختلف نظرتك للأمور، وتعيش بذلك البريق الدائم بعينيك الذي ينبئ بدموع لا تفسير لها، وقد تشعر بالغربة بداخل جسدك، تريد تركه مكانه والهرب بعيداً، أو تقف أمام مرآة وتقول “هل حقا مرّ كل هذا الوقت ” إنها المحنة من جعلتك صامداً حتى صرت لا تشعر بمرور الوقت.

أعلم كم أصبحت الحياة صعبة عليكم وكم أرهقكم التفكير، لم أكتب لأخبركم بأنكم أقوياء، بل سيصيبكم الضعف أغلب الأحيان، كتبت لأحيي بداخلكم من الضعف قوة، ومن اليأس عزم

ورغم مرور كل هذا الوقت مازالت الطفلة بداخلي بانتظار استيقاظي من كابوس أرهق روحي، مازالت تنتظر عودة الأمور لمجراها، بأن ينعم الطفل الصغير -أخاها- بالأم التي يستحقها وأن يلتف بقية إخوتها حول الأم بدون التألم على حالها، بأن تتحسن الأمور، مازالت الطفلة بداخلي تتساءل أهو عقاب من الله أم ابتلاءٍ، أخبرها كل ليلة بأنه اختبار مهما كان مسماه، أخبرها بأن تصمد، لكنها تبدأ في البكاء ” لماذا اختارني الله لمثل هذا “، أخبرها بأن هنالك من هم أسوأ، لتهدأ قليلا ثم تبدأ في البكاء على حالهم، علي حال أولئك من هم أسوأ، إنها المحن من تجعل منك شخصا سريع التأثر والبكاء، لا تدري أترثي حالك أم حال بقية المبتلين، لكنها أيضا من تجعل منك شخصا يبتسم، سريع النهوض، لا يكترث أنه كان على موعد مع البكاء منذ قليل، بل يبدأ في بناء حياته مجددا ومراراً .

إلى أولئك الذين تشابهت حكاياتهم بحكايتي، عليكم الاعتقاد والإيمان من داخلكم وبشدة أن نهاية صبركم جنة، ونهاية بطشهم جهنم، فالاعتقاد بغير هذا يدخلكم في دوامات أسئلة عن سبب حدوث هذا لكم وجدواه، ودوامات من السخط على حال الدنيا وظلمها، وروتين من الإرهاق الجسدي والنفسي لا فكاك منه، فتغلقون على أرواحكم أي بادرة أمل، تنتهي طاقاتكم على لا شيء بينما كان بوسعكم زرع الأمل ذاته، أعلم كم أصبحت الحياة صعبة عليكم وكم أرهقكم التفكير، لم أكتب لأخبركم بأنكم أقوياء، بل سيصيبكم الضعف أغلب الأحيان، كتبت لأحيي بداخلكم من الضعف قوة، ومن اليأس عزم، لأذكّر نفسي وإياكم بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فأحسنوا أعمالكم ولا تضيعوا صبركم علي لوم الأيام .