ثلاث سنوات مضت على مذبحة رابعة، ولا تزال دماء الأبرار تنتظر أن تدب الحياة في عالم الأموات الذين يمشون على ظهر الأرض، ليتم القصاص العادل.
هؤلاء الشهداء يُقتلون في كل عام..
نعم يقتلهم إعلام ماجن تجرد من كل معاني الإنسانية، لم يكتف بالافتراء عليهم حال حياتهم، بل يعمد في ذكرى فض الاعتصام الغاشم إلى التهوين من عدد القتلى، وتبرير قتلهم، وبعضهم يدّعي أن الجثث التي تكدست يوم الفض لم تكن جثثا على الحقيقة، وإنما لأحياء تقمصوا دور الموتى.
نعم، يقتلهم قضاء وضيع يتجاهل حقيقة الميزان المنصوب فوق رأسه، لا يزال يُغدق بالأحكام الجائرة على أهالي الشهداء وأقاربهم وأصدقائهم وأحبابهم، يحاكم الأبرياء ليفلت القاتل من العقاب.
نعم يُقتلون بمقصلة الحزبية والاختلاف الأيديولوجي، التي نصبها باعة الفكر وتجار أسواق النخاسة السياسية، أولئك الذين تتحرك أقلامهم وأبواقهم لكل دم يسيل في الغرب بدافع الإنسانية، وفي المقابل لا يزالون ينهشون في أجساد الشهداء ويصفونهم بالإرهابيين.
نعم يُقتلون كل عام بيد عمائم السلطة المنتسبين إلى العلم، الذين يقلّلون من أمر دماء الشهداء، ويُضفون على الجاني ثوب الشرعية في جرائمه.
يُقتلون عندما يخرج من لم ينلْهُ الوجع، وينادي بطيّ صفحة الماضي، وكف الحديث عن شهداء رابعة وترك المطالبة بالقصاص، وبدء صفحة جديدة في ظل حكم الفرعون.
وبحلول الذكرى الثالثة لفض الاعتصام، تابعتُ الصحف والمواقع المصرية، لأطالع مظاهر القتل السنوي لشهداء رابعة، لكن هالني ما رأيت من محسوبين على التيار الإسلامي السلفي، وهم يشاركون في تلك الجريمة.
كان الأولى بهم في تلك المناسبة أن يمتثلوا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”.
كان الأولى بهم الترحم على الشهداء، ومواساة ذويهم الذين لم يجف لهم دمع، لكنهم نطقوا ويا ليتهم ما نطقوا.
قتلوا الشهداء ثانية عندما سكتوا عن جرم القاتل، واجتهدوا في إلقاء التبعة على الإخوان وقياداتهم، وعلى من اعتلوا منصة رابعة وألهبوا حماس الشباب.
قالوا إن الإخوان دفعوا الشباب إلى الهاوية، تسببوا في قتلهم، رموا بهم في أحضان الرصاص، ولاذوا هم بالفرار.
لو أردنا دفع هذه الفرية، لاستفضنا في ذكر عدد القيادات الذين استُشهد أبناؤهم فحمل الآباء نُعُوش فلذات الأكباد.
ولو أردنا لاستفضنا في ذكر أبنائهم المعتقلين الذين كانوا في الصفوف الأمامية.
لو أردنا لقلنا إن الإخوان بشرٌ يخونهم التقدير كما غيرهم، ولو كانوا يعلمون أن النظام القمعي سيُقدم على تنفيذ هذه المذبحة، يقينا كان الموقف سيختلف.
وحتى مع علمهم بأن النظام ينوي فض الاعتصام، فمن كان يظن أنه سينفذه بتلك الطريقة الوحشية؟
من كان يظن أن قوات الشرطة والجيش سوف تتجاوز استخدام الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه، إلى استخدام الرصاص المتفجر، ومدافع الجرينوف، ومدافع (إم تو) الثقيلة؟
من كان يظن أن الجندي المصري تغيرت عقيدته على هذا النحو، ليحمل سلاحه ويقتل أخاه المصري بدم بارد، ويلتقط صورا تذكارية على جثمانه؟
إن كان هذا رأيكم تبدونه يا أهل الدعوة والعلم، فما الذي يعنيه في هذا التوقيت؟ هل ترفعون اللوم والمسؤولية عن عاتق النظام الوحشي؟ واأسفاه على من ضيّع وبدّل، وسقط في مستنقع المداهنة وفساد التأويل.
إن الالتفاف على تحمل النظام المسؤولية الكاملة عن المجزرة، لهو مشاركة في الجريمة ضد هؤلاء الشهداء، سواء جاءت بهدف تهدئة الأوضاع، أو أتت على مطية تأويل فاسد.
ليت الذين يقتلون شهداء رابعة كل عام يُدركون أنه لم يعد في جعبة السفاح المزيد، لعنة الدماء تطارده بالفشل في كل حين، رصيده الشعبي آخذ في التصفير، ومليارات الخارج لم تنقذه من ورطته، وعرشه حتما إلى زوال.
لا أجد مثلا لشهداء رابعة مع من قتلهم وأعان عليهم وتجاهلهم وأيد قاتلهم وتأوّل له، سوى تلك العجوز الحبشية التي رآها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الحبشة، تمر على جمع من الشباب، فيدفعها أحدهم وهي تحمل قُلّة على رأسها، فتقع على الأرض وتنكسر قُلّتها، ثم تنهض وتلتفت إلى الشاب قائلة: “سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا”.