شهدت مصر موجات من تفجير الكنائس في سنوات متعاقبة، والأمل أن يكون حادث مسجد الروضة بالعريش، الذي خلف 315 شهيدا، آخرها.. وهو هجوم غير مسبوق في نوعيته، وتوقيته في وقت صلاة الجمعة، الأمر الذي يثير تساؤلات عديدة، ليس فقط عن القائمين به، بل أيضا للبحث عن الهدف من ورائه. فلهذه الأحداث، رغم طابعها الإجرامي، أبعاد سياسية لا يمكن استبعادها.
ويبدأ تاريخ مهاجمة مناطق التجمع الإنساني منذ عام 1954؛ في ما عرف بـ”فضيحة لافون” التي دبرتها وخططت لها إسرائيل، لتعويق محادثات جلاء القوات البريطانية عن مصر.. وهي عملية سرية إسرائيلية فاشلة كانت تعرف بعملية سوزانا، وكان من المفترض أن تتم عن طريق تفجير أهداف مصرية وأمريكية وبريطانية في مصر، في صيف عام 1954. ولكن هذه العملية اكتشفتها السلطات المصرية. وقد سميت باسم “فضيحة لافون” نسبة إلى وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك بنحاس لافون؛ الذي اتهم بإعطاء الأوامر لتنفيذ العملية التي هدفت إلى عرقلة الانسحاب البرطياني، من خلال تفعيل خلية إرهابية يهودية مصرية، للتخريب في مرافق بريطانية وأمريكية ومصالح غربية في مصر، والإيحاء بأن هذه العمليات تمت من قبل خلية مصرية. وقد نجحت الخلية، التي ضمت 13 يهوديا صهيونيا مصريا من الإسكندرية، بتنفيذ عدة عمليات، إلى أن قُبض عليها في تموز/ يوليو 1954 وتم تقديم عناصرها للمحاكمة.
تفجيرات كنيسة القديسين
استهدف تفجير كنيسة القديسين، مار مرقص الرسول والبابا بطرس خاتم الشهداء، بمنطقة سيدي بشر بمدينة الإسكندرية المصرية، صباح السبت 1 كانون الثاني/ يناير 2011، في الساعة 12:20، عشية احتفالات رأس السنة الميلادية. وكان تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين قد استهدف كنيسة سيدة النجاة ببغداد سابقا، وهدد الكنيسة القبطية في مصر بنفس المصير إن لم تطلق سراح كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين. ووصل عدد الوفيات إلى ما لا يقل عن 23، بالإضافة إلى 97 من الإصابات غير القاتلة.
القول بتورط وزارة الداخلية
وبعد الثورة المصرية في كانون الثاني/ يناير 2012، ظهرت على صفحات الجرائد المصرية مستندات – لم يتسنّ التأكد من صحتها – تجزم بضلوع وزير الداخلية المصري آنذاك، حبيب العادلي، في التفجير، وأنه كلّف القيادة رقم 77 ببحث القيام بعمل من شأنه تقييد الأقباط وإخماد احتجاجتهم، وتهدئة نبرة البابا شنودة تجاه القيادة السياسية، وأن التفجير جرى بالتعاون بين الداخلية وأحد المعتقلين النافذين في الجماعات المتطرفة، ويدعى أحمد محمد خالد.
وتكاثرت هذه الأحداث في مصر خلال العام الحالي؛ الذي شهد سلسلة من الاعتداءات الإجرامية منها:
– شهدت مصر في 26 من أيار/ مايو هذا العام؛ مقتل 26 شخصا، بينهم أطفال، جراء الهجوم بالرصاص على حافلة تقل أقباطا، أثناء توجههم إلى المنيا، ليوقّع العمل الإرهابي أيضا بإمضاء داعش.
– في 9 من نيسان/ أبريل، قتل 44 شخصا، في تفجيرين انتحاريين في كنيستين مصريتيين في كل من طنطا والاسكندية، أثناء الاحتفال بمناسبة دينية، لتعلن مصر على إثر الحادثين؛ فرض حالة الطوارئ في البلاد.
– في 7 من تموز/ يوليو، تكرر استهداف عناصر من الجيش المصري، ليقضي 26 جنديا مصريا، ويصاب العشرات من قوات الأمن، في هجوم على نقطة تفتيش في مدينة رفح محافظة شمال سيناء؛ اعتُبر حينها الأعنف بعد تفجير في عام 2015 في شمال سيناء. وتبنى داعش حينها العملية.
– قيل أن تنظيم داعش قد وفد إلى سيناء وتبني عملية مماثلة في 11 أيلول/ سبتمبر، حيث قـُتل على الأقل 18 شرطيا، بعد استهداف مسلحي التنظيم قافلة أمنية قرب مدينة العريش أيضا.
– في 12 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أعلن الجيش المصري مقتل 6 من جنوده، في هجوم إرهابي على نقطة أمنية في مدينة العريش بمحافظة شمال سيناء.
– في 20 تشرين الأول/ أكتوير الماضي، قتل 16 عنصرا من الشرطة المصرية في هجوم بطريق الواحات البحرية؛ تبنته جماعة غير معروفة، تسمى أنصار الإسلام.
أما آخر ما نذكر به، فهو الحادث الذي افتتح به المصريون عامهم، حيث قتل ثمانية رجال شرطة، في هجوم على نقطة تفتيش أمنية في محافظة الوادي الجديد بصحراء مصر الغربية، لتكون هذه السنة على مصر، وعلى مدى شهورها، لا تكاد تخلو من الاستهدافه من قبل الإرهاب.
حادث العريش:
أما تفجير مسجد الروضة بالعريش، الذي وقع يوم الجمعة 24 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، فكان أكثرها بشاعة، ونفذ بشكل غير مسبوق في تاريخ مصر؛ من حيث الاعتداء على المساجد، وبشاعة قتل المصلين بالرشاشات والعبوات الناسفة في وضح النهار، وفي غياب الاحتياطيات الأمنية في هذه المنطقة التي يسودها التوتر وتقع فيها أحداث مماثلة.
ومن الملاحظ تكاثر تصريحات الإدانة من الدول الأجنبية بشكل واضح. فقد توالت التعازي والإدانة من أمير الكويت، وبوريس جونسون، وزير الخارجية البريطاني، والملك عبدالله الثاني، والسفارة الأمريكية بالقاهرة، ومارتن شولتز، السياسي الألماني وزعيم الاشتراكيين الديمقراطيين. وندد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتفجير، وتلقى سامح شكري وزير الخارجية اتصالين هاتفيين من وزيري خارجية إسبانيا واليونان، ورسائل تعزية من وزير خارجية بريطانيا، ورئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري والملك سلمان بن عبد العزيز ورئيسة مجلس الاتحاد الروسي، فالنتينا ماتفيينكو، وزارة الخارجية القطرية، والرئيس اليمني عبدربه منصور هادي. ووجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تعازيه إلى مصر، إلى جانب رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، ووزارة الخارجية الأمريكية، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. وأمرت عمدة باريس آن هيدالجو، بإطفاء الأضواء في برج إيفل بباريس. وقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إنه يجب التعامل بشكل “أقوى وأذكى” – وكتبها بأحرف كبيرة باللغة الإنجليزية في إشارة إلى التأكيد عليها – كما صدرت إدانات من رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، ووزير الخارجية الإيرانية، محمد جواد ظريف، وإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، فيما كست إسرائيل مبنى بلدية مدينة تل أبيب بألوان العلم المصري، تضامنا مع مصر.
هكذا كانت الإدانة والتضامن شاملان من أمريكا والاتحاد الأوروبي والدول العربية المتحالفة مع مصر، ولفت النظر إدانة قطر وتركيا وإيران؛ للحادث البشع.
ومن الواضح أن هذا التضامن سيطلق يد السلطات المصرية في اتخاد الإجراءات القمعية الشديدة، دون لوم ولا اعتراض من الدول الغربية، وسيتواري لوم مصر لانتهاك حقوق الإنسان، مما يؤدي إلى فترة عصيبة ودموية تمس البلاد، خاصة وأن الانتخابات الرئاسية على الأبواب، وهو هدف لم تقصده الدولة لإطلاق يدها في تسوية حساباتها بشدة مع معارضيها بتأييد دولي واسع.
ولكن الأمل بمعالجة الأمر بحكمة، وألا تغالي السلطات المصرية في عمليات القمع العشوائية، وأن تتلمس أسباب تهدئة الجبهة الداخلية بدلا من تأجيج نارها؛ للمضي في جهود التنمية والديموقراطية، في مواجهة شكوك ضعيفة وغير مؤكدة بعودة نظرية “لافون” أو حبيب العادلي.