كتب / عزة مختار
قبل أن نتحدث عن تشريعات الإسلام للإنسان وأخلاقياته، والعقاب الشديد والثواب الكبير الذي وضعهما لمن يعصي أو من يطيع، يجب أن نعرف أولاً كيف ينظر الإسلام للإنسان، وما هي قيمته فيه كدين خاتم ارتضاه الله عز وجل للإنسانية جميعها إلى يوم الدين، فهو الدين الخاتم للأمة الخاتمة المكلفة فرضاً بنشره؛ ليكون دين البشرية، ليس خاصاً بزمان، وليس محدداً بمكان، وليس مقصوراً للغة أو لون.
وقيمة الإنسان في الإسلام ليست مقصورة على المسلمين، وإنما جعلها الله للناس عامة، فكل إنسان هو مكرّم، وكل إنسان له قداسة، وكل إنسان له حق وعليه واجب، وقد جسد تلك المكانة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم حين مرت به جنازة يهودي، فوقف لها واغرورقت عيناه، ولما سُئل، قال عليه الصلاة والسلام: (أوليست نفس؟).
فكل نفس هي في الإسلام لها حق الإنسانية أولاً، حتى إذا اجتمع الإسلام مع الإنسانية صار الحق مضاعفاً، كما أن الواجب مضاعف أيضاً.
-التكريم الإلهي للإنسان:
يقول الله عز وجل-وهو الخالق العالم بمن خلق-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء، الآية:70].
ويقول تعالى: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص، الآية71].
فالله عز وجل يقرر بذاته جل وعلا أنه قد خلق الإنسان بيده من طين الأرض، وهو بذلك ليس تلك الطينة الأرضية الدنيا؛ لأنها اختلطت بروحه التي نفخت فيه، فصارت إنساناً في أحسن تقويم، وفي أكمل صورة، وذلك هو التكريم الأول.
أما التكريم الثاني، فهو أنه سبحانه خلق الإنسان وجعله حراً، بإرادة كاملة في اختيار طريقه، ليس مسيراً، وليس مجبراً، أهَّلَه للاختيار، ووهبه القدرة على التمييز، وجعل له نفساً يستطيع قيادها إن هو أراد، فيقول سبحانه: {ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس، الآية:8].
فالإنسان المكرّم من الله يختار طريقه وهو جدير بالمحاسبة، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، أي أنه جدير بتحمل مسؤولية ذاته ومجتمعه والخلافة في الأرض.
ولأن للإنسان قيمة غير عادية في الإسلام، ولعلمه الدقيق بخلقه فقد أنزل الله له المنهج المتكامل الذي يلزمه لإصلاح شأنه الخاص، وإصلاح شأنه العام.
توازن يناسب قطعة الطين التي تنتمي للأرض، ومراعاة احتياجاتها الأرضية من طعام وشراب وزواج وتكاثر، وكذلك المنهج الذي يراعي احتياجاته الروحية التي تتجاذب الجانب المادي فيه، فوازن بين تلك الاحتياجات بدقة، أحلّ له البيع وحرّم الربا، جعل اللقمة يكسبها من حلال ثم يضعها في فم زوجته له بها صدقة، يمارس العلاقات المحرمة فيرجم أو يجلد، وفي ذات الوقت جعل في بضع أحدهم صدقة.
-صلاح الأرض بصلاح المنهج:
ولأنه لا صلاح للأرض إلا بصلاح الإنسان الفرد والمجتمع، فقد أنزل منهاجاً تربوياً ربانياً متكاملاً، يبين له طريقه، فهو منهج اعتقادي يشبع حاجة الإنسان وفطرته التي خلقها الله عليها، عقيدة التوحيد الخالص، توحيد الإلوهية وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، لهذا الكون إله خالق، وهو رب يقوم على شؤون العباد، وهو وحده المستحق للعبادة، وهو وحده الذي يرزق ويحيي ويميت، ويحاسب ويثيب ويعذب، لا إله غيره، فيقع الإنسان في حيرة أي إله يعبد، ولا يغفل ولا ينام، يجيب المضطر، ويساوي بين العباد في ربوبيته.
وهو منهج أخلاقي نابع من تلك العقيدة لا ينفصل عنها، وغير متروك للهوى الشخصي، أو رغبة الفرد، وهو منهج تشريعي ينظم علاقة الفرد بربه، وعلاقة الفرد بالآخر، وهذا الآخر هو مسلم أو غير مسلم، الروح فيه مقدسة إلا بحقها، فلا قتل إلا بحدّ، ولا قتل لغير مسلم، إلا بقتال.
وهو منهج روحي عبادي تتصل فيه الروح بالأرض؛ لتسمو بها، ويتصل فيه الجسد بالروح؛ لتحول حركته في الأرض لتعمير وإصلاح، وعبودية لرب العالمين.
فمن ابتعد عن المنهج، ونأى بنفسه عنه، فهو بكامل إرادته الحرة التي وهبه الله إياها، وارتضاها له، فقد استوجب العقاب الأليم، والعذاب المقيم، ومن اختار لنفسه التزكية، ومضى حيث أراد ربه، فقد استحق النعيم الأبدي برحمة ربه أن وفقه للاختيار، والقدرة على كبح جماح نفسه.
-حين نكون مسلمين:
وحين نكون مسلمين نطبّق كامل المنهج العقيدي والأخلاقي والتشريعي، سيتغير واقعنا كله ولا شكّ، سيتغير حال المسلمين المتردي، حتى صاروا أضحوكة الأمم، صراعات فيما بينهم، ضحاياها المسلمون وحدهم، حروب يدفع ثمنها المسلمون، والقاتل والمقتول من المسلمين، غربة للدين في بلاده، غربة للأخلاق في موطن الدين، تخلف ومرض وفقر وجوع في أمة اقرأ، والتي لم تعد تقرأ!نساء مهضومات الحقوق، ورجال مقهورون، وشعوب مستباحة، كل تلك الصورة القبيحة ستتغير، مكانة المرأة، ودور الرجل، وأخلاق الشباب، وأحوال مدارسنا وجامعاتنا، مستويات مستشفياتنا، لن نكون مجرد عالة على العالم، أو مجرد مستهلكين لحضارة الغرب.
سيتغير المظهر الحضاري لبلاد المسلمين؛ لتُنشئ نظيراً متقدماً للحضارة التي بناها الأسلاف في بغداد ودمشق والقاهرة والأندلس، لن تجد جائعاً أو محتاجاً، ليس لغني، وإنما للتكافل الذي لا يسمح بوجود جائعين، “فليس منا من يبيت شبعاناً وجاره جائع”، لن تجد مظلوماً والدين يأمر بالنصرة، “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”، المظلوم بأخذ الحق له، والظالم بأخذ الحق منه، لن تجد فيها جاهلاً، “فمن سلك طريقًا يلتمس فيه علماً، سهل الله له طريقاً إلى الجنة”، حين نكون مسلمين، سيتغير كل شئ نراه اليوم، وهذا ما سنتناوله في مقالات مقبلة تفصيلاً، حتى نكون مسلمين بحق.