من يدفع المصريين إلى الانتحار؟

فتحت حادثة انتحار طالب الهندسة من أعلى برج القاهرة ملفًا شائكًا؛ هو ملف (الانتحار فى مصر) الذى يتصدر إحصائيات المنظمات الدولية منذ عام 2014؛ هو نفس العام الذى تولى فيه العسكر -رسميًّا- إدارة البلاد.

وقد تفاوتت أعداد المنتحرين خلال السنوات الست الماضية، لكنها تقترب من/ أو تزيد على أربعة آلاف منتحر فى العام الواحد، ومن مؤشراتها أن أعداد الرجال تفوق أعداد النساء بكثير-على غير العادة فى سلوك المكتئبين والمنتحرين- ولهذا دلالة، حسب تفسير الخبراء النفسيين؛ إذ يعنى أن العاملين الاقتصادى والمجتمعى هما الدافع لإقدام هؤلاء المواطنين على التخلص من حياتهم؛ فحسب منظمة الصحة العالمية وفى تقريرها عام 2016 مثلاً فإن (3095) رجلاً مصريًّا انتحروا فى مقابل (704) سيدات.

وإذا كانت المنظمات العالمية هى التى تتحدث عن الظاهرة دون المنظمات المحلية؛ فلأنه صار من المحرمّات أن تتناول منظمة محلية هذا الملف، حتى وإن أصبحت مصر هى الأولى (عربيَّا) فى معدلات الانتحار؛ ذلك أن العسكر يرون ذلك تسييسًا للظاهرة؛ قد يستغله (الإخوان!) للتشنيع عليهم واتهامهم بالفشل الاقتصادى -إلا أن دراسة وحيدة صادرة عن وزارة الصحة أكدت أن (21.7%) من طلبة الثانوية العامة يفكرون فى الانتحار، ولا تجد دراسة أخرى حول الظاهرة وأسبابها وما ينتج عنها رغم وجود عشرات المراكز البحثية المتخصصة والتى لم تتأخر ساعة يوم طُلب منها توصيف (ظاهرة الإرهاب) المزعومة!

العسكر هم الذين يدفعون الشباب إلى الانتحار، الذى ستزيد معدلاته فى الفترة المقبلة ما بقيت أوضاعنا الكارثية على ما هى عليه، وبعدما سدُّوا سُبل الأمل فى حياة كريمة أمام مائة مليون مواطن وخصوصًا الشباب الذى بدأ قطاع كبير منه يتجه إما إلى الانتحار أو الإلحاد أو التحلل أو تناول المخدرات والمسكرات، وقد أتيحت له أسباب ذلك بالتوسُّع فى عدد المقاهى وأماكن اللهو، وإلغاء الرقابة على الإباحية والمجون، وتوفير علب ليل آمنة لممارسة الرذيلة واحتساء الخمور، فضلاً عن كف الدعاة عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، أو التذكير بما قال الله وقال الرسول.

قبل أن تلوموا الشباب المنتحر–وفى ديننا بالطبع تحذير من هذا الفعل  المشين- لوموا من هيأ له أسباب الخسران، ومن دفعه إلى اليأس من الحياة ولم يوفر له الأسباب الكريمة للمعاش، وإذا كان عمر –رضى الله عنه- قد أوقف حدًّا لمصيبة عامة ألمَّت بالمسلمين؛ فمن الإنصاف أن تُقطع أيدى وأرجل المتسببين فى انتحار آلاف المصريين وإصابة الملايين بالأمراض النفسية، وانعدام الأمل فى الحياة، وفقدان الرغبة فى كل شىء، وما ينتج عن ذلك من أمراض عضوية أشبه بالوباءات عجز الناس عن مكافحتها، فى غياب الخدمات الصحية وامتناع النظام الفاشل عن علاج المواطنين.

يا سادة! المكتئب المقدم على الانتحار يمثل حالة متأخرة من هذا المرض اللعين، الذى يبدأ بالقلق الذى تتوفر أسبابه كاملة فى هذه الأيام والليالى العجاف، فالشاب لا يرى سوى مستقبل ضبابى قياسًا على الأوضاع الحالية المتردية، ولديه شعور بالعجز أمام متطلبات الحياة اليومية، وقد عُدم حرية التعبير، وفقد الأمل فى أى تغييرات سياسية لحلحلة الوضع المأزوم، فى ظل سيادة أجواء الكبت والقهر، خصوصًا بين فئتى الطلبة والعمال، وهما  -بالمناسبة- أكثر الفئات حضورًا فى إحصائيات الانتحار.

يا سادة! الشاب المصرى الذى انتحر مؤخرًا مات أبوه وسُجن أخوه الضابط لأسباب سياسية، وهو يعيش وحيدًا يائسًا بائسًا، وبقية شباب المحروسة لا يقلون عنه بؤسًا ويأسًا؛ فلا يجدون وظائف أو أعمالاً يتكسبون منها بالحلال، بعدما أغلق النظام أبواب التوظيف -إلا لأبناء الكبار- وبعدما خرّبوا القطاع الخاص، ثم امتناع الاستثمار الأجنبى. وإذا وجد الشاب الوظيفة فلا يقدر على الزواج الذى تضاعفت تكاليفه، وإن تزوج فلا يستطيع الصرف على بيته، فيقع الطلاق، وراجعوا –للاستيثاق- معدلاته فى السنوات الست الأخيرة. من هنا تفشَّت العنوسة وانتشر الزنى، وكثرت الفواحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

يسعى آلاف من الشباب المصرى إلى الهجرة، وإلا فكَّر فى الانتحار، بعدما صار غريبًا فى وطنه، وبعدما أُغلقت أمامه الأبواب جميعًا؛ إذ هناك تردٍ اقتصادى لم تشهده البلاد من قبل، وهناك ارتفاع كبير فى الأسعار يأكل من رصيد كرامة الناس، وهناك انهيار فى قيمة الجنيه يمنع الاستقرار، وهناك مرضى لا يجدون علاجًا، وهناك إهمال حكومى على المستويات كافة، وعجز خدمى واضح لا تستقيم معه الحياة فى هذا البلد المبتلَى..

لقد غيبوا الدعاة المخلصين فانتحر الشباب، ومنعوا العلماء من وعظهم  وتربيتهم فصاروا قنبلة موقوتة سوف تنفجر فى وجه الجميع. وفى مواعظ العلماء تذكير بقيم الصبر والحلم، وإظهار للأحكام الفقهية الغائبة عن شبابنا اليائس، وفيها معانى الأخوة الصادقة والبر والتكافل المجتمعى، والمشى فى حاجات الناس وجبر خواطر المنكسرين، والتذكير بالله، والحث على صلات الرحم والجوار وحقوق المسلمين -وهذه كفيلة بتقويم الشباب، وردهم إلى دينهم، واستيعابهم للمعانى المحببة للحياة، المانعة لإلحاق الأذى بالروح.

لن يستقيم الحال إلا بالقضاء على الاستبداد والمستبدين، وبإصلاح الحياة السياسية التى أماتوها بالانفراد بالرأى واتخاذ القرار، وبإعادة الأنشطة الطلابية والشبابية؛ لاستيعاب طاقاتهم المتفجرة، ومنع الفراغ الذى يسدونه  بالمخدر والتسكع والإباحية، وما يتلوها من الانكفاء على الذات والتفكير السلبى الذى يدفع -حتمًا- إلى الانتحار.