ومضات: من آداب الخلاف في الإسلام (1)

ومضات:

من آداب الخلاف في الإسلام (1)

قال تعالي: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ ( آل عمران:103-105)

“يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالتَّمَسُّكِ بِحَبْلِ اللهِ، أيْ بِعَهْدِهِ وَدِينِهِ وَذِمَّتِهِ وَقُرْآنِهِ، وَمَا أمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الإِلْفَةِ وَالمَحَبَّةِ وَالاجْتِمَاعِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ، وَيَطْلُبُ إلَيْهِمْ أنْ يَذْكُرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيهِمْ إذْ ألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَآخَى بَيْنَهُم بَعْدَ العَدَاوَةِ المُسْتَحْكِمَةِ، وَالفُرْقَةِ التِي كَانَتْ بَيْنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ، فَقَدْ كَانُوا عَلَى مِثْلِ شَفِيرِ النَّارِ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَضَلالِهِمْ وَاقْتِتَالِهِمْ، فَهَدَاهُمُ اللهُ وَأَنْقَذَهُمْ. وَكَمَا بَيَّنَ لَهُمْ رَبُّهُمْ، فِي هَذِهِ الآيَاتِ، مَا يُضْمِرُهُ لَهُمُ اليَهُودُ مِنْ شَرٍّ وَخِدَاعٍ وَغِشٍّ، وَمَا كَانُوا عَلَيهِ فِي حَالِ جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنْ كُفْرٍ وَفُرْقَةٍ وَاقْتِتَالٍ، وَمَا صَارُوا إليهِ بِفَضْلِ الإِسْلامِ مِنْ وَحْدَةٍ وَإِخَاءٍ، كَذَلِكَ يُبَيِّن سَائِرَ حُجَجِهِ فِي تَنْزِيلِهِ عَلَى رَسُولِهِ، لِيُعِدَّهُمْ لِلاهْتِدَاءِ الدَّائِمِ، حَتَّى لا يَعُودُوا إلى عَمَلِ أهْلِ الجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالعَدَاوَةِ وَالاقْتِتَالِ” .

يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: “إنهما ركيزتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة , وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم. فإذا انهارت واحدة منهما لم تكن هناك جماعة مسلمة, ولم يكن هنالك دور لها تؤديه: ركيزة الإيمان والتقوى أولاً ثم ركيزة الأخوة في الله, على منهج الله, لتحقيق منهج الله: فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام . . من الركيزة الأولى أساسها الاعتصام بحبل الله أي عهده ونهجه ودينه وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر, ولا على أي هدف آخر, ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة! وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله, تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية, والثارات القبلية, والأطماع الشخصية والرايات العنصرية. ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال”

مفهوم الخلاف: (طبيعي، ضروري، مفيد):

الخلاف بين الناس أمر طبيعي تقتضيه الطبيعة الإنسانية كما تقتضيه طبيعة الدين و طبيعة اللغة: يقول الشيخ عبد الله بن بيه: “الاختلاف ظاهرة لا يمكن تحاشيها باعتبارها مظهراً من مظاهر الإرادة التي ركبت في الإنسان” ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾(هود:118) يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه” (إعلام الموقعين) يقول د. يوسف القرضاوي: “إن أسباب الخلاف قائمة في طبيعة البشر، وطبيعة الحياة، وطبيعة اللغة، وطبيعة التكليف، فمن أراد أن يزيل الخلاف بالكلية، فإنما يكلف الناس والحياة واللغة والشرائع ضد طبائعها.على أن الخلاف العلمي في ذاته لا خطر فيه، إذا اقترن بالتسامح وسعة الأفق، وتحرر من التعصب والاتهام وضيق النظر” ويقول الإمام البنا: ” إن الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل، بل هو يتنافى مع طبيعة الدين، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور ويماشي الأزمان، وهو لهذا سهل مرن هين لين لا جمود فيه ولا تشديد”.

والخلاف ضروري لثراء الفكر وتطور الحياة ورعاية أحوال الناس المتغيرة ولذا فهو سعة ورحمة ومصلحة وثروة: يقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة”. قال ابن قدامة رحمه الله: “إن الله برحمته وطَوْلِه جعل سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام مهد بهم قواعد الإسلام وأوضح بهم مشكلات الأحكام: اتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة”( المغني) وقال الإمام الحجة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم: “لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرًا منه قد عمل عمله” (جامع بيان العلم وفضله) وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الل

ه أن “رجلاً صنف كتابًا في الاختلاف فقال أحمد: لا تُسمِّه كتاب الاختلاف، ولكن سمه كتاب السعة” (الفتاوى الكبري). يقول عمر عبد الله كامل: “اختلاف الآراء الاجتهادية يثري الفقه لأن كل رأي يستند إلى أدلة واعتبارات شرعية. وبهذا التعدد والتنوع تتسع الثروة الفقهية التشريعية، وإن تعدد المذاهب الفقهية وكثرة الأقوال كنوز لا يقدر قدرها وثروة لا يعرف قيمتها إلا أهل العلم والبحث، فقد يكون بعضها أكثر ملاءمة لزمان ومكان من غيره”.

تفهم أسباب الخلاف يعصم من التعصب:

يقول الإمام البنا رحمه الله:
“نعتقد أن الخلاف في فروع الدين أمر لابد منه ضرورة، ولا يمكن أن نتحد في هذه الفروع لأسباب عدة منها:اختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعفه، وإدراك الدلائل، والجهل بها، والغوص على أعماق المعاني، وارتباط الحقائق بعضها ببعض، والدين آيات وأحاديث ونصوص يفسرها العقل والرأي في حدود اللغة وقوانينها، والنّاس في ذلك جد متفاوتين، فلابد من خلاف. ومنها سعة العلم وضيقه، وأن هذا بلغه ما لم يبلغ ذلك، والآخر شأنه كذلك، وقد قال الإمام مالك لأبي جعفر: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة. ومنها: اختلاف البيئات، حتى إن التطبيق ليختلف باختلاف كل بيئة، وإنك لترى الإمام الشافعي رضي الله عنه يفتي بالقديم في العراق، ويفتي بالجديد في مصر، وهو في كليهما آخذ بما استبان له، وما اتضح عنده لا يعدو أن يتحرى الحق في كليهما. ومنها: اختلاف الاطمئنان القلبي إلى الرواية عند التلقي لها، فبينا نجد هذا الراوي ثقة عند هذا الإمام تطمئن إليه نفسه، وتطيب بالأخذ منه، تراه مجروحاً عند غيره لما علم عن حاله. ومنها: اختلاف تقدير الدلالات، فهذا يعتبر عمل الناس مقدماً على خبر الآحاد مثلاً، وذاك لا يقول معه به.. وهكذا. كل هذه أسباب جعلتنا نعتقد هذا فنلتمس العذر كل العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبداً حائلاً دون ارتباط القلوب، وتبادل الحب، والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده، وأوسع مشتملاته، ألسنا مسلمين وهم كذلك؟وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالاً للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم في جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو إلى التفاهم؟”

يقول د. يوسف القرضاوي:
“معرفة مراتب الأحكام الشرعية، وأنها ليست في درجة واحدة من حيث ثبوتها، وبالتالي من حيث جواز الاختلاف فيها أمر مهم يعصم من التعصب. فهناك الأحكام الظنية التي هي مجال الاجتهاد، وتقبل تعدد الأفهام والتفسيرات، سواء كانت أحكاماً فيما لا نص فيه أو فيما فيه نص ظني الثبوت، أو ظني الدلالة، أو ظنيهما معاً، وهذا شأن معظم الأحكام المتعلقة بالعمل، كأحكام الفقه، فهذه يكفي فيها الظن، بخلاف الأحكام المتعلقة بالعقيدة، التي لا يغني فيها إلاّ القطع واليقين.والاختلاف في الأحكام الفرعية العملية والظنية، لا ضرر فيه ولا خطر منه، إذا كان مبنياً على اجتهاد شرعي صحيح، وهو رحمة بالأمة، ومرونة في الشريعة، وسعة في الفقه، وقد اختلف فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان، فما ضرهم ذلك شيئاً، وما نال من أخوتهم ووحدتهم كثيراً ولا قليلاً”. “لهذا كان من المعاني الكبيرة التي يجب على شبابنا أن يحسنوا التفقه فيها: أن يعرفوا ما يجوز فيه الخلاف، وما لا يجوز، وأن منطقة ما يجوز فيه الخلاف أوسع بكثير مما لا يجوز، وأهم من هذا كله أن يتعلموا أدب الخلاف وهو أدب ورثناه من أئمتنا وعلمائنا الأعلام، علينا أن نتعلم منهم كيف تتسع صدورنا لمن يخالفنا في فروع الدين… يجب أن نتعلم أن الخلاف في الفروع أمر واقع، ما له من دافع، وأن لله حكمة بالغة حين جعل من أحكام الشريعة القطعي في ثبوته ودلالته، فلا مجال للخلاف فيه، وهذا هو القليل، بل الأقل من القليل، وجعل منها الظني في ثبوته أو دلالته، أو فيهما معاً، فهذا بما فيه مجال رحب للاختلاف، وهو جلّ أحكام الشريعة، وهناك من العلماء من آتاهم الله القدرة على التحقيق والتمحيص والترجيح بين الأقوال المتنازع فيها، دون تعصب لمذهب أو قول، مثل الأئمة: ابن دقيق العيد، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن حجر العسقلاني، والدهلوي، والشوكاني، والصنعاني.. وغيرهم، ولكن محاولات هؤلاء من قبل، لم ترفع الخلاف، ومحاولات غيرهم من بعد، لم ترفع الخلاف ولن ترفعه”

#رسائل_تربوية
#ومضات
للمزيد من التواصل زوروا موقع ومضات على :
الويب https://wmdat.com