ومضات.. في ظلال القرآن

“وإن كان كبر عليك إعراضهم ، فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض ، أو سلماً في السماء ، فتأتيهم بآية! ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين”

وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة . . وما يملك الإنسان أن يدرك حقيقة هذا الأمر ، إلا حين يستحضر في كيانه كله : أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم . . النبي الصابر من أولي العزم من الرسل . . الذي لقي ما لقي من قومه صابراً محتسباً ، لم يدع عليهم دعوة نوح – عليه السلام – وقد لقي منهم سنوات طويلة ، ما يذهب بحلم الحليم!
. . . تلك سنتنا – يا محمد – فإن كان قد كبر عليك إعراضهم ، وشق عليك تكذيبهم ، وكنت ترغب في إتيانهم بآية . . إذن . . فإن استطعت فابتغ لك نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء ، فأتهم بآية!
. . . إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية . فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول . . ولو شاء الله لجمعهم على الهدى : إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى – كالملائكة – وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه . وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعاً . وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر الله عليها .
ولكنه سبحانه – لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله – خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان ، لوظيفة معينة ، تقتضي – في تدبيره العلوي الشامل – أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة . من بينها التنوع في الاستعدادات ، والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات . في حدود من القدرة على الاتجاه ، بالقدرالذي يكون عدلاً معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال . .
لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده ، ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية ، وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف .

إن طريق الدعوة إلى الله شاق ، محفوف بالمكاره ، ومع أن نصر الله للحق آت لا ريب فيه ، إلا أن هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يقدره الله ، وفق علمه وحكمته ، وهو غيب لا يعلم موعده أحد – حتى ولا الرسول – والمشقة في هذا الطريق تنشأ من عاملين أساسيين : من التكذيب والإعراض اللذين تقابل بهما الدعوة في أول الأمر ، والحرب والأذى اللذين يعلنان على الدعاة .

. ثم من الرغبة البشرية في نفس الداعية في هداية الناس إلى الحق الذي تذوقه ، وعرف طعمه ، والحماسة للحق والرغبة في استعلانه! وهذه الرغبة لا تقل مشقة عن التكذيب والإعراض والحرب والأذى . فكلها من دواعي مشقة الطريق.
#ومضات
#في_ظلال_القرآن
#سيد_قطب