ومضات: الحزمِ التربويّ

ومضات:

الحزمِ التربويّ
ممّا لا يخفى على أحدٍ أنّ أمّةً بأكملِها قد تأثّرت برداءة البيئة وانحلال الأخلاق، خاصّة في السّنواتِ الأخيرة، وتعدّت هذه الرّداءة الأوساط العامّة لتُصيب الجماعات الإسلاميّة. وممّا يزيد المشكلة حدّةً أن حامِلي مشعلِ الدّعوة يعيشون في (مجتمع جاهلي) لا يمتُّ إلى جوهر الدّين بصلة، مجتمعٌ تعطّلت فيه بوصلة الخير، وانسلخ من كلّ القيم والمُثل. مجتمعٌ طغى فيهِ الفساد حتى صار التهتّك والإباحيّة عنوان التقدم والتحضّر، وغدا التورّع والتديّن رمز الرجعيّة والتأخر.

وفي وقتِ وجبَ على هؤلاء الدّعاة الحزمُ والوقوفُ في وجه هذا الانحلال حتّى لا يفتكَ بنا، نجدُ منهم فئات وفِرقٌ تُمارس تساهلاً تربويًا عجيبًا في تكوينِ الأفراد، وتماوتًا في الخير لا يمتّ للحزم بصلة، وهزالاً إصلاحيًا فريدًا، حيث يأخذ نمطية النّعُومة والسُّهولة، والدَّعَة والليونة، وتسوّد متعاظمًا بالبسمة وغضّ الطّرفِ، وانبرى جاهدًا بالتسلية والتّحبيب، فغرّتهُم الكثرة وتناسوا في خِضمِها الأساسَات، جعلوا الوسائل غايات، والمقدّمات خاتمات.

إنّ الدّاعيةُ الحقُّ هو شديدُ المحاسبة لنفسِه، دائمُ المراقبة لربّه، متورعٌ عن الشُّبهات، مقبلٌ على الطّاعات، يحمِلُ همّ الدّعوة على عاتقهِ ويشعُر بوجوب السّعي لانتشال الأمة من تيهها الذي تهيم فيه
لم يفرّقوا بين مدخلٍ ومقصد، وأصلٍ وفرع، وذكرٍ وأنثى، فلقد خلطوا الفروع بالأصول، والوسائل بالمقاصد، فأصبحتِ الغاية تبرّر الوسيلة: “كلّ شيء لا ضَرر منه ما دُمنا سنصلِ لهدفنا في النّهاية!” فتلاشت المفاهيم وضاعت الحُرمات، وهانت ركائزُ الدّعوة، وأضحت (مزاداً) يَؤُمُّه غير فقيه، ويقصده غير مُتقن، ويقوده غير مُتمكّن: جميع الفئات دون استثناء، جاهلة كانت أو ناشئة، فاترة أو هازلة، الكلّ مؤهّل دون قيود أو شروط أو التزامات.

إن هذا المنهجَ المحدَث الغريب ما هو إلاّ ذريعةٌ لتغييب التربيّة عن العلم، والسّماحِ لظاهرة الانحلال الأخلاقي بأن تغزونا، وإيقاع الأفراد في متاهات الجهل والتسيّب والتفلّت، فينشأ هذا الجيل وقد حيل بينهم وبين التعلق بحياة الجادّين البارزين الذين عزت بهم الدعوة الإسلامية ونهضت واتّقد مشعلُها.

والأكيد الذي لا يُنكِره إلاّ كل جاهلٍ أنّ هذا المسلك إجحافٌ بالدعوة، وإقصاء في فهمِ غايتِهَا وحقيقتِها، وجناية بشِعة على بركاتِها، ووصمَة عارٍ على جبينِها وحاشاها الدّعوة والفكرة ممّا نرتكبُه اليوم في حقّها، حاشاها! فكوّنا بذلكَ جيلاً من الثغراتٌ التربويّة هذا إن لم تكن فجوات، ينتشرون اليومَ في مجامع الشّباب والملتقياتِ والمخيّمات التّربوية لكن ليسوا كمتعلّمين ومتكوّنين، بل كفقهاءٍ وأصحاب مناصِبٍ رفيعةٍ، ممثّلين عنّا يحملونَ لواءَ الدّعوة، ويهتفون بشعاراتٍ ونظرياتٍ فارغة، لأنّهم لم يتمّ إعدادُهم إعدادًا علميًا حسيًا يتناسب مع ما ينتظرهم في مستقبل دعوتهم من مفاجآت، ولم تتجسّد في حياتهم قِيَم الدعوة ومُثُلِها…

إنّ تلكَ المجامع والمخيّمات تقصدها اليومَ جموعٌ غفيرة من التّلاميذِ، شبابًا كانوا أو ناشئة، من ذوي فِكرِنا أو مختلِفين عنّا، فإن حصلت استجابةٌ صَار هؤلاءِ التّلاميذ شيوخ الغدِ، ومضوا على طريقة مربّيهم ومعلّمِيهم حذو القذة بالقذة، واتخذوا من هؤلاء قدوة. ولَكُم أن تتصوروا حالهم حينها، وكيف تكون نهايتهم ومصيرهم؟! هؤلاءِ التلاميذ لن يطول بهم الزّمن حتّى يميل بهم الهَوى وتبعث بهم النَّزوات، سيصابون حتمًا بمُلوّثات المُجتمع، وسينالهم نصيبٌ كبيرٌ من شذوذِه وانحرافِه، ثم يُراد منهم بعد ذلك أن يكونوا ربّانيّين يعملون من أجل الدين، ويرفعون راياته، ويُضحّون من أجله ويَثْبتُون على الطَّريق! كلاّ، بل سيصدِمُهم الواقِعُ غدًا، فيتساقطون عنّا أو ينقلبون علينَا.. لا فرق.

الحقيقة أنّ المشكلة لا تكمنُ في هذه الفئة من الدّعاة بالذّات (إن صحّ تسميتُهم بالدّعاة أصلاً)، وإنّما في المربّين والمكوّنين لهم، في كلّ من رأى فيهم عيبًا أخلاقيًا وصمت، في القادة الذين يرونَ أخطاءهم ويغضّون عنها الطّرف، الخطأ وراء الآخر، وكلّ خطئٍ أعظمُ من الذي سبقه، حتّى أثقلوا كاهل الدّعوة والحركات الإسلاميّة. لستُ أقول أنّنا ملائكةً لا نخطئ، لكن هناكَ أخطاء من أخطاء، فإذا تعاظمت وتجاوزت المعقول وجب بترها.

تخيّل معي شخصًا ليسَ له في الدّين شيء سوى انتماءه وبعض الشعائر التي يقوم بها، وأمّا سلوكياته فعليها وعلى صاحبِنا السّلام! فكيف لمثلِهِ أن يكونَ قائدًا يربّي جيلاً وينهضُ بالأمة؟ ربّما تذرّع المُصلحون والدّعاة الربّانيّون الذين اتخذوا هذا المَسلكَ، بوجود فئاتٍ غير سويّة تحتاج مثلَ هذا الأسلوب في التّعامل لتحقيق التأثير والتحبيب، وهذا يأخذُ جانبًا من الصحّة إن أخذنا بعينِ الاعتبار أنّ النفوس جُبِلت على حبُّ من أحسن إليها وقد تدفعها القسوة والشدة أحيانًا إلى المُكابرة والنُّفور، فتأخذها العزّة بالإثم، فاللّين والرّفقُ مقامان محمودان، وفي قوله تعالى: “اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى”، توجيه ربّانيّ إلى الرّفق ومجانبة الغلظة والشدة وهذا مع فرعون الطّاغية فكيف إذن مع أبناءِ دعوتنا.. لكن ليس معنى اللّين المُداهنة والتسيّب وإنّما بذل النُّصح وإن لزِم التوبيخُ أيضًا لكن بأسلوب دمثٍ مؤثر يفتح القلوب ويشرح الصُّدور.

ومنهم أيضًا من يتذرّع بقلّة الأفراد وحاجة الحركات الإسلاميّة اليوم إلى أشخاصٍ فاعلين، يسدّون الحاجة ويقودون المجتمع. هُنا وجبَ علينا طرحُ سؤالٍ مهِم: هل ضغط الحاجة وقلة المؤهلين يسوغ لنا أن نتساهل كثيرًا في صفات ومؤهلات من يحملون مِشعلَ الدّعوة؟ إن هؤلاء المُصلحين ما هُدوا لأحسن الطّرق، ولا أصَابوا قَصد السَّبيل.

التّربية في الحياة الإسلاميّة، ومن يُمثّلها، ويقوم بها، كمثل النّواة من الذرّة، وكما أن النّواة تحقّق وجود الذرّة بحقيقتها، فكذلك لابدّ في الحياة الإسلاميّة من نواةٍ لها، يتحقّق عندها وبها وجودُها: إنّه العالم الداعية الربّانيّ، أو المعلّم المرشد المربّي
إنّ الدّاعيةُ الحقُّ هو شديدُ المحاسبة لنفسِه، دائمُ المراقبة لربّه، متورعٌ عن الشُّبهات، مقبلٌ على الطّاعات، يحمِلُ همّ الدّعوة على عاتقهِ ويشعُر بوجوب السّعي لانتشال الأمة من تيهها الذي تهيم فيه، ويدرك أنه لا مناص من قيادتِهَا إلاّ بانتشال نفسِه أوّلاً من الشّهوة والغفلة، وحتى تتعوّد قدمُه المشي في درب الطّاعة اللاّحب السّليك، وهذه الطّاعةُ هي التي أعلنها نبيّ الله موسى عليه السّلام منذُ القِدم، في قوله تعالى: “قالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا، قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا”، فكانَ بذلكَ فنُّ الطّاعةِ وطلبُ العلمِ هو الطريقُ الموصِلُ إلى فنّ القيادةِ وانتشال الأمّة.

ثمّ إنّ إلى جانبِ الحزمِ التربويّ، وجبَ على الأفرادِ النّاشئةِ في الدّعوة أن يكونوا على قدرٍ كافٍ من العِلمِ، وجانبٍ عميقٍ من عُمقِ العقيدةِ وسموّ الأخلاق وقوّة الإيمان، فلا دعوةَ لجاهلٍ والعلم في حقيقتِه ثقيلٌ حجمُه، عظيمٌ كاهله على أمثالِ هذه الفئة، لذا إنّ مراعاتهم في الدّعوة مقصدٌ مهم، لاحتوائهم والتأثير فيهم. والمصلحُ الواعي والمربّي النّاجح هو من يرى حتميَّة بروز العلم وغلبته في تنشئة هؤلاء، حتّى يُصبحَ الإسلام لديهم مقياس كلّ حُكمٍ ومفتاح كلّ قضيةٍ ومصدر كلّ تصورٍ، ويرى أن تجريد الدعوة من العلم والحزم خطأ محض.

إذن فالتّربية في الحياة الإسلاميّة، ومن يُمثّلها، ويقوم بها، كمثل النّواة من الذرّة، وما يتّصل بها من حقائقها الخاصّة، من الإلكترونات والبروتونات، والشحنة والعدد الذرّي، وكما أن النّواة تحقّق وجود الذرّة بحقيقتها، فكذلك لابدّ في الحياة الإسلاميّة من نواةٍ لها، يتحقّق عندها وبها وجودُها: إنّه العالم الداعية الربّانيّ، أو المعلّم المرشد المربّي.

بقلم / خولة مقراني

#مجالس_العلم
#ومضات