مواقف من حياة الدعاة

يروي الاستاذ / محمود عيد ابو العنين ذكرياته مع الإمام البنا – رحمه الله – فيتحدث عن رحلته إلى أسوان :

وصل القطار إلى أسوان فنزلت وإذا بالهتافات تعلو وسارعت إليهم لأرى فضيلة الإمام باسم المحيا مضيء الوجه ينادى كل واحد من المستقبلين باسمه.

ضمني فضيلة الإمام إلى السكرتارية الخاصة للرحلة ( عبد الحليم الوشاحى وأحمد عبد العزيز ) واتجه بنا المستقبلون إلى المركز الرئيسي للإخوان فوصلنا بعد مشقة كبيرة من السفر لم يتخلله سنة من نوم وكنت أتوقع الراحة ولكن قدم لنا طعام الغذاء وبدأ العمل مباشرة باجتماعات تنظيمية متتالية استمرت لقرب المغرب حيث اتجهنا إلى أكبر مسجد في أسوان ليلقى فضيلته المحاضرة الأولى التي انعقد بعدها لقاء بالأعضاء الجدد بالدعوة من المثقفين والتجار والعمال والطلبة والفلاحين .

وظل الانتقال من اجتماع إلى محاضرة إلى حفلات مما لا يطيقه أقوى الشباب والرجال وأنظر إلى الإمام وهو يتحدث ويحاضر ويستحوذ على أفئدة وقلوب السامعين وأنا ألهث بقلمي فيما اعددت له من مذكرات وكتب فأكتب أول الآية – دون النظر إلى الورقة التي أكتب فيها وكذلك الحديث الشريف وابيات الشعر وأترك الباقي لعلى أرجع إليه وأستطيع استخراجه من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة ومن العلماء ولم يكن الإمام يكرر خطبة أو حديثاً مما جعل مهمتي شاقة في جمع هذه الأحداث وكان فضيلته في غاية النشاط والهمة مما لا يجاريه أقوى الشباب.

وكنا نستعمل في الانتقال بين القرى العربات البيك اب وكان يصبر علينا فضيلته حتى نركب ثم يصعد آخرنا مستخدماً جوانب السيارة في الجلوس وممسكاً بالهيكل الحديدي بالسقف وكان يطبق الحيث الشريف إن الله لا يحب أن يرى احدكم متميزا عن أصحابه

.. وكان آخر من يأوي إلى الفراش وأول من يستيقظ لصلاة الليل .. اذكر أن اليوم الأول الذى وصلنا فيه ولم ننم قبلها يوماً كاملا ناهيك عن الصداع والحرارة الشديدة وعدم أخذ أي قسط من الراحة ولم يتبق على صلاة الفجر إلا ساعة ونصف الساعة فسأل فضيلته : من منكم يستطيع أن يوقظنا قبل صلاة الفجر ، فرفعت يدى قائلا : أنا فضيلة الأستاذ .. وجلست على الكرسي ووضعت المصحف أمامي على المنضدة لأقرأ وكنتُ معتادا السهر للاستذكار حتى الصباح ولكن الجهد الذى اعترانا جميعاً ليومين متتالين جعلني لا أشعر إلا بيد المرشد على كتفي وهو يوقظني لصلاة الفجر قبل أن تشرق الشمس.

لم أكن أقدّر الجهد الذى يبذله فضيلة الإمام في الدعوة إلى الله فقد مكثت مع فضيلته سبعة أيام متنقلا من مدينة إلى مدينة ومن قرية إلى قرية ومن مسجد إلى مسجد في أوج حرارة الشمس وفى مواصلات تهد كيان أقوى الأجسام وهو يغير خطابه من أسلوب إلى اسلوب يناسب ثقافة السامعين دون ملل أو كلل بل كان يفهمه السامع ويعشقه.

سبعة أيام قضيتها مع فضيلة المرشد منذ ثمانية وخمسين عاماً لم أزل أرتوى منها وأنعم بشحنتها الروحية..

بعد أن وصلت بيتي في إسكندرية وكان ذلك قبل رمضان بيوم واحد بدأت في جميع وترتيب ما كتبت فكانت لي ذخرا في ليالي رمضان الذى غاب فيها إمام المسجد الذى كنت أصلى فيه فوجدتني أتحدث بما رسخ في قلبي وعقلي ..

فكان يقول فضيلته:
دعوتنا هذه علم وتعلم ، وتربية وتهذيب ، وبر وإحسان ، ورجوع إلى القرآن ، ثم يخرج المصحف الشريف من جيبه ويضمه إلى قلبه ويقول : (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) فصلت : 42.

نعم إنني أعيش أيامى هذه وما قبلها في سبعة أيام مع فضيلة الإمام رحمه الله رحمة واسعة فقد جدد لهذه الأمة أمر دينها.. (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا ) هود: 116.
#ومضات
#مواقف_من_حياة_الدعاة
#حسن_البنا