مرسي.. السطر الأول في الحكاية

مرسي.. السطر الأول في الحكاية
وائل قنديل

من العبث محاولة قراءة الحالة المصرية، والعربية الراهنة، من دون التوقف عند السطر الأول فيها، وسواء اعتبرتها مأساة، أو ملهاة، فإن المبتدأ فيها هو الرئيس محمد مرسي.
منذ اختطافه وعزله وسجنه، بانقلاب عسكري، إقليمي له بعد دولي، باعتراف غير قليلين من سياسيين كانوا وقوداً لعملية القرصنة تلك، في صيف العام 2013، ومصر، والمنطقة كلها، في حالة سيولة سياسية وعسكرية واجتماعية، لم تعرف معها استقراراً، أو سكوناً، فانمحت التواريخ والخرائط، وتبعثرت ما كانت تسمى منظومة قيمٍ تشكّل، بالحد الأدنى، وحدة وجدانية عربية.
من هنا، يمكن النظر إلى دأب سلطة الانقلاب في مصر على الإجهاز على الوجود القانوني والاعتباري للرئيس مرسي، عبر أحكامٍ تصدر من قضاء، ليس فقط تابعاً للسلطة السياسية، وإنما هو يمثل الجزء الأكثر شراسة منها، خصوصاً بعد أن قطع النظام السياسي شوطاً أبعد في الهيمنة الكاملة على القرار القضائي من المنبع، بسن تشريعٍ يمنح قائد الانقلاب وحده سلطة اختيار رؤساء الهيئات القضائية.
هم يريدون تمزيق هذه الورقة من الحكاية المصرية، توطئةً لسرديةٍ جديدة، تتماشى نصوص صفقة القرن، وتستجيب لرغبات اللاعبين النافذين في الإقليم، وتصوراتهم لشكل المنطقة، وليس أفضل من أحكام الإدانة بالجاسوسية هنا، وسيلة لقتل أي قيمة وطنية وأخلاقية يمثلها الرئيس الأسير، وفرض واقع جديد يقول إن على من يريد الدخول إلى الموضوع المصري أن يقفز على النقطة المحورية فيه: رئيس منتخب تم اختطافه وسجنه وإدانته، وسلطة جديدة لها قوة الأمر الواقع، وقوة السلاح، وقوة الشمول المالي والسياسي.
كل هذا طبيعي، ومنطقي للغاية، بالنسبة لأولئك الحريصين على محو تلك اللحظة من التاريخ، لكن غير المنطقي أن يتعاطى الذين يزعمون أنهم ضد الواقع الانقلابي مع ما سبق باعتباره أمراً محسوماً ومفروغاً منه، ثم يحدثونك عن مشاريع ومبادراتٍ لإنقاذ مصر واستعادتها من سلطةٍ، بات القاصي والداني يدرك أنها جزء من الإرادة الصهيونية.
الأمر هنا يشابه أن يقول قائل إن إسرائيل ليست دولة احتلال، ثم يحدثك عن ضرورة تحرير فلسطين، أو بالحد الأدنى دعم مشروع للتحرّر الفلسطيني، وهذا هو التجسيد الكامل لما يعرف بالمنطق الفاسد، ذلك أن فساد المقدمات يقود، بالضرورة، إلى فساد النتائج.
السؤال هنا: ماذا يبقى من الموضوع المصري، أو القضية المصرية، لو انتزعت منها ورقة الرئيس محمد مرسي؟
يثور السؤال على وقع هذا الصمت الهادر، والتجاهل المدوي، من أطرافٍ وجهاتٍ وجبهات، احترفت مناهضة الانقلاب، على عمليات التنكيل القضائي بالرئيس مرسي، وكأنهم يشاطرون السلطة الرغبة في إسقاط هذه اللحظة المفصلية، ومحوها من السردية كلها، بحجج كثيرة، ثبت تهافتها، واحدة تلو الأخرى، مؤداها أن التوقف عندها معطلٌ لمشاريع المستقبل، ومضيع لفرصة الاحتشاد من أجل التخلص من السلطة الحالية.
السؤال مرة أخرى: هل كان من الممكن أن تكون هناك جبهات وكيانات، تلد استثماراتٍ إعلامية وفرصاً نضالية واعدة، لو لم يكن في القصة رئيسٌ مختطف، يواجه، صامداً وصلباً داخل زنزانته، الرواية المغلوطة الفاسدة لما جرى لمصر على أيدي قراصنةٍ أوغاد؟
يتهرّبون من الإجابة على السؤال بذرائع مضحكة، أقرب إلى الأوهام، منها أن المجتمع الدولي قد يرغب بالمساعدة في وضع حد للمأساة المصرية، ودعم حراك التغيير، شريطة طرح بدائل تقفز على حقيقة أن رئيساً شرعياً لا يزال على قيد الحياة، وهو الكلام الذي يتردد منذ ثلاث سنوات، من دون أي دليل مادي أو معنوي على وجاهته.
يمكنك أن تستعيد هنا كمية هائلة من الأوهام المباعة، مثل التي راجت على نطاق واسع عقب وصول الملك سلمان إلى حكم السعودية، ترافقه حكاياتٌ وحواديت لطيفة عن موقفه الرافض دعم سلطة الانقلاب في مصر، وغيرها من أوجه الاستثمار في الوهم، قلت عنها سابقاً إنها تعبر عن حالة “نكوص”، أو طفولة سياسية مصرية، تتأسس على سيكولوجية البحث عن “الكبير” أو “الراعي” الذي يستجيب، جزئيا أو كليا، لطموحات وأحلام وتطلعات هذا الطرف، أو ذاك، من معسكري السلطة والمعارضة.
يبتزونك أيضاً بأن التوقف عند موضوع الرئيس مرسي يفاقم أزمة المعتقلين والمساجين، ويعطل انفراجةً ينتظرها الجميع بشأنهم، بينما الواقع يقول إن شهية القمع والاعتقال تلتهم أولئك الذين سجلوا مواففهم المعلنة ضد الحديث عن شرعية مرسي. وبالتالي ليس هناك ما يؤيد أوهاماً لطيفة من نوعية “لا داعي للحديث عن الرئيس حتى تضع الزنازين أحمالها”.
حين تتخلى عن روايتك، سيفرض الآخرون رواياتهم الكاذبة للتاريخ.