ماذ قدم الإخوان المسلمون للقضية الفلسطينية؟ [2]

بقلم: عامر شماخ

 

أشرنا فى العدد السابق إلى أهمية فلسطين بالنسبة للمسلمين عامة وجماعة الإخوان المسلمين خاصة، وأشرنا كذلك إلى الأدوار التى لعبتها الجماعة منذ ظهور القضية على الساحة وحتى عام 1948. وفى هذا العدد نتطرق إلى دور رجال الإخوان المسلمين البطولى فى حرب عام 1948، وتضحياتهم منذ أول يوم فى الحرب وحتى تم الغدر بهم واعتقالهم فى نهايتها..

 

لقد سارت معارك الإخوان فى الحرب على النحو التالى:
– معركة كفار ديروم الأولى:
هاجم الإخوان هذه المغتصبة فجر يوم 14 من إبريل 1948م، وكانت مغتصبة حصينة، محاطة بحقول ألغام كثيفة وحواجز سلكية من جميع جهاتها، إضافة إلى قيام رجال (الهاجاناه) و(البالماخ) بحراستها.

 

لقد استطاع رجال الإخوان -على مدار أسبوع- قبل الدخول فى المعركة، نزع الألغام وقطع الأسلاك الحاجزة.. حتى إذا وقعت المواجهة، أبدى الإخوان بطولات نادرة، ودارت بينهم وبين الحراس المجهزين تجهيزًا متطورًا معارك على أبواب الأبراج والدشم.. ورغم ذلك لم يستطع الإخوان احتلالها، ولعل السبب هو أنها أولى معاركهم وليست لهم خبرة كافية فى فنون قتال عصابات اليهود.

 

– نصب كمائن للعدو واصطياد أفراده بعد تدمير شبكات مياهه:
بعد الانسحاب من معركة كفار ديروم الأولي، استقر رأى الإخوان، على استدراج العدو خارج المغتصبات واستفزازه ثم الدخول معه فى مواجهة، على أرض محايدة.. لقد قام بعض جنود الإخوان بتدمير شبكات مياه العدو بين مغتصبتَى (بيري) و(اتكوما)، وأباحت الأنابيب للأعراب ينتزعونها من الأرض تحت حراستهم، ثم رابطت القوة فى المنطقة لتمنع الصهاينة من إصلاحها.. وصبر اليهود يومين لعل هذه القوة تنصرف، ولكنها لم تفعل، فجمع العدو عددًا كبيرًا من المصفحات، ودخلت فى معركة مباشرة معهم.. وصمد الإخوان صمودًا عجيبًا، وأوقعوا من اليهود عددًا من القتلي، قبل أن يبعثوا فى طلب النجدات.

 

وجاءت مصفحات الإخوان وأحاطت بمصفحات العدو.. واشتدت المعركة بين الفريقين رغم تقاطر النجدات من مغتصبات العدو المختلفة؛ الذى لم يجد بدًا غير الانسحاب، بعد أن أطلق سحبًا كثيفة من الدخان لتغطية هذا الفرار.. وقد سارع الإخوان بجمع الغنائم.. وعادوا لتدمير الأنابيب من جديد!!

 

– الثأر لشهداء كفار ديروم والاستيلاء على كميات هائلة من الأسلحة والدجاج:
حين علم البطل أحمد عبد العزيز بما حدث للإخوان فى معركة كفار ديروم، نظم كمينًا محكمًا على حدود المغتصبة، وحشد مدافعه ورجاله حولها.. ولما حاول العدو تحطيم الحصار وإدخال قافلة كبيرة محملة بالجنود والعتاد، انطلقت المدافع، فحاول جنود العدو النجاة فقذفوا بأنفسهم من المصفحات، إلا أن سرية كانت مختبئة لهم فحصدتهم جميعًا، وحاول حراس المغتصبة نجدتهم، فغادروا الأسلاك الشائكة فتركهم الإخوان.. ثم بدأوا يطلقون عليهم النار.. وأخذ المجاهدون يحصون ما غنموه، فإذا هم أمام خمس عشرة مصفحة محملة بأحدث الأسلحة والذخائر، ومواد التموين، ومصفحة مليئة بالدجاج والطيور.. وكان نصرًا رائعًا لهذه الكتيبة المجاهدة.

 

– الاستيلاء على مغتصبة رامات راحيل:
كانت مغتصبة (رامات راحيل) إحدى المغتصبات اليهودية الخطيرة؛ فهى تقع على ربوة عالية، وتتحكم فى الطريق الرئيسى الذى يصل بيت لحم بالقدس، وقد فشل الجيش الأردنى أكثر من مرة فى اقتحامها.. وهذا ما دعا مجاهدى الإخوان إلى التخطيط لوضع نهاية لهذه المغتصبة الخطرة.

 

وفى مساء يوم 26 من مايو 1948 بدأ رجال الإخوان فى الزحف على المغتصبة، وفى منتصف الليل وعندما دقت ساعة كنيسة بيت لحم دقتين، ارتجت الأرض تحت دوى المدافع، ولم تمض دقائق حتى تفجرت حقول الألغام واشتعلت الحرائق بالمغتصبة.. ثم سكتت المدافع.. ليندفع الفدائيون يفجرون الأسلاك الشائكة للمغتصـبة، وخلـفهم فصائل الاقتحام، ليبدأ الاشتباك الرهيب عند الخنادق والدشم.

 

لقد قاوم اليهود مقاومة عنيفة، لكن فدائيى الإخوان كانوا أكثر تصميمًا على التخلص من المغتصبة، فعمدوا إلى أبراجها فحولوها إلى أنقاض، وعكفوا على الخنادق فطهروها.. وحين كان آخر يهودى يفر هاربًا إلى مغتصبة (تل بيوت) القريبة من (رامات راحيل)، كان صوت المؤذن يدوى معلنًا وقت صلاة فجر هذا اليوم الأغر، يوم 27 من مايو 1948م.

 

لقد خسر الإخوان فى هذه المعركة تسعة من الشهداء والجرحي، وقد أذهل الأبطال ما وجدوه داخل المغتصبة من خيرات ومؤن مكدسة؛ إذ كانت المغتصبة مركزًا كبيرًا من مراكز تموين معسكرات جنوب القدس.أما عدد القتلى من اليهود فقد كان كبيرًا؛ إذ وُجد تحت الردم ما يزيد على المائتين، عدا من تم إجلاؤه من الجرحى والقتلى.

 

– استرداد دير مار إلياس: أراد اليهود تعزيز قواتهم حول مغتصبة (رامات راحيل)، فأرسلوا قوة من جنودهم هاجمت الجيش العربى الأردنى فى مقر قيادته فى (دير مار إلياس) واضطرته لإخلائه، وكان هذا الدير يقع على مقربة من (صور باهر) حيث ترابط فصائل الإخوان، فوق أن احتلاله من جانب اليهود يؤثر تأثيرًا بعيدًا فى موقف القوات المرابطة فى بيت لحم، فلم يجد الإخوان بدًا من معاودة احتلاله.. فهاجمت قوة منهم، اليهود، واضطرتهم للانسحاب، موقعة بهم خسائر كبيرة.

 

– تحرير قرية العسلوج من أيدى اليهود:
هاجم اليهود قرية العسلوج، وكان بها قوة صغيرة من الإخوان؛ لم تستطع الصمود أمام قوات اليهود الضخمة.

 

ومما يذكر أن هذه القرية كان بها مستودع الذخيرة الذى يمون المنطقة كلها. وقد أسقط فى أيدى الإخوة الذين يحرسونه؛ عندما فوجئوا باقتحام قوات العدو للمخازن والاستيلاء عليها، وقد قاموا على الفور بإشعال النيران بالمخازن، مضحين بأنفسهم فى سبيل ألا يغنم العدو هذه الأسلحة والذخائر الضخمة، وقد أتت النيران فى لحظات على كل ما تحويه المخازن، وعلى كل من دخله من جنود الصهاينة.

 

أما كيف تم تحرير القرية من أيدى اليهود.. فقد كان ذلك على يد قوة صغيرة من الإخوان بقيادة ضابط ملازم، هو الأخ يحيى عبد الحليم، من إخوان القاهرة.

 

– منع العدو من احتلال جبل المكبر وتكبيده خسائر فادحة:
كان وجود قوات للإخوان فى منطقة بيت لحم وما حولها، نقطة ضعف للعدو، الذى حاول بشتى الطرق تطويق هذه القوات وإفساد خططها، لكن يقظة الإخوان وحنكة قائدهم البطل أحمد عبد العزيز أفشلت تحركات العدو، بل لقنته دروسًا قاسية فى المواجهات التى تمت بين الطرفين.

 

ومن هذه المواجهات ما حدث فى (جبل المكبر)، ففى يوم 18 من أغسطس 1948، بدأ اليهود يزحفون تجاه هذه المرتفعات، بقوات وآليات لا حصر لها، آملين الاستيلاء على هذه المرتفعات وطرد الإخوان منها؛ لما تمثله من قيمة دفاعية مهمة لمن يضع يده عليها.. لقد كانت قواته هائلة، ومدافعه ترسل حممًا على مواقع الإخوان، وكلما صد الإخوان موجة من موجات العدو فوجئوا بغيرها من إمداداته التى لا تنقطع.

 

فتصرف القائد «محمود عبده» سريعًا، وأمر فصيلة من جنوده بالالتفاف إلى اليمين وقطع الطريق على العدو، وفى الوقت نفسه أمر المدافعين عن الجبل بالانسحاب المنظم، فظن العدو هلاك القوة المدافعة عن الجبل، فلما تقدمت قواته فوجئوا بحمم مدافع الإخوان تنصبُّ عليهم من كل ناحية.. ولما حاولوا التراجع إلى القدس، فوجئوا بقوة من الخلف تفنيهم جميعًا.

 

– الاستيلاء على تبة اليمن وتغيير اسمها إلى تبة الإخوان:
نجحت قوات العدو يوم 19 من أكتوبر 1948، فى الاستيلاء على مرتفع شاهق يعرف باسم (تبة اليمن)، ولم يضيع اليهود وقتًا؛ إذ بدءوا فى حشد قواتهم بهذه التبة وما حولها من النقاط الحصينة، وبدءوا فى تحصين دفاعاتهم آملين الاستقرار فى هذا المرتفع، وصاروا بعد ذلك يهددون المناطق المحيطة بها. ورأت قيادة الجيش المصرى ضرورة تطهيرها، فانتدبت لذلك قوات الإخوان، ولم تمر ساعة حتى نجحت هذه القوات فى الإجهاز على القوات اليهودية وتكبيدها خسائر فادحة والاستيلاء على كثير من الذخيرة والمعدات، ثم سيطرت على مساحات واسعة بالمنطقة، وصارت تشرف على قرى (الولجة) و(عين كارم) و(المالحة)، وقد أصدرت قيادة الجيش المصرى أمرًا بتسمية الجبل: (تبة الإخوان المسلمين).

 

– تموين قوات الجيش المصرى المحاصرة بالفالوجا:
بعدما يئس العدو من الاستيلاء على المناطق التى يضع الإخوان أيديهم عليها فى (بيت لحم) و(الخليل)، شرع فى شن هجومه على قوات الجيش المصرى فى مناطق (أسدود) و(المجدل)، واستطاع أن يرغم قوات الجيش على إخلاء هاتين المنطقتين والإيقاع بقوة كبيرة حاصرها فى الفالوجا وظل يحاصرها حتى نهاية الحرب. وبحصار الفالوجا عُزلت قوات المتطوعين عن القيادة العامة تمامًا، وقد تعرضت القوات المحاصَرة لمحن شديدة وهجمات متواصلة من العدو.. وهذا ما دفع قوات الإخوان إلى التخطيط للتخفيف عن إخوانهم المحاصَرين، فبدءوا فى تنظيم قوافل لنقل المواد التموينية اللازمة لهذه القوات.. وقد تسللت هذه القوافل عبر الصحارى الواسعة التى يسيطر عليها العدو، وقد تعرضت فى طريقها الطويل لكثير من المآزق والأخطار، وكم من مرة اصطدمت القوافل مع دوريات اليهود واشتبكت معها فى معارك دامية، استُشهد بسببها عدد منهم وجُرح وأسر آخرون.

 

– تحرير التبة 86 التى فقدها الجيش المصرى:
فى 23 من ديسمبر هاجم اليهود مرتفعًا مهمًا جنوب دير البلح يعرف باسم (التبة 86) واستولوا عليه، وقد كان نجاحهم فى احتلال هذا الموقع يعنى عزل حامية غزة وتكرار مأساة الفالوجا.

 

ولقد طار الإخوان فرحًا عندما طلب قادة الجيش منهم الاستعداد لاسترداد الموقع، بعد أن فشل الجيش فى استرداده، ولقد كان موقفًا رائعًا حينما أصر جميع الإخوان على المشاركة فى المعركة، ولم يكن مطلوبًا سوى فصيلة أو اثنتين، فتمت القرعة بينهم.. هاجمت ثلاث مجموعات من الإخوان، قوات العدو، من الشمال والأمام والخلف، وفى ذهن كل فرد منهم: إما النصر وإما الشهادة، أما الانسحاب أو التراجع فلا يدخل فى حساباتهم.. وظلت مدافع الإخوان تقذف الموقع بقنابل الدخان حتى أحالته إلى ظلام حالك، ثم تسللوا ليشتبكوا بالقنابل والأيدى مع أفراد العدو وداخل خنادقهم… وما هى إلا لحظات حتى بدأت مصفحات العدو فى الآن

 

سحاب المذعور، وأخذ الإخوان يطاردونهم، وقام آخرون بتطهير الموقع.. فكانت خسائر العدو فادحة، ووُجد من بين قتلاهم (كولونيل) روسى يحتل مركزًا مهمًا بالجيش اليهودى.. وقد أخذ ضباط الجيش وجنوده يعانقون الإخوان ويهنئونهم بالنصر ويهتفون بشجاعتهم.

 

وتقديرًا من قائد الجيش المصرى فى فلسطين (أحمد فؤاد صادق) لبطولة الإخوان فى هذه المعركة، فقد طلب من الحكومة الإنعام بالنياشين على هؤلاء الأبطال، لكن الحكومة رفضت؛ إذ يعد ذلك -من وجهة نظرها- اعترافًا بجهاد وفضل الإخوان، فلما أصر هذا القائد على طلبه، أصدرت الحكومة نشرة عسكرية بها أسماء خمسة عشر جنديا من الإخوان أسمتهم (جماعة المتطوعين المصريين) كى تدارى عمالتها وخيبتها.

 

– صد هجوم العدو فى مرتفعات (لحض) المصرية:
بعدما دخل العدو الأراضى المصرية، ولم يلق مقاومة كافية، بدأ فى التقدم، وكان الإخوان قد وصلوا إلى منطقة (أبو عجيلة) فلم يجــدوا قــوات الجيش، فقاموا -على الفور- بتجهيز خطة دفاعية عن (أبو عجيلة)، غير أن قوات العدو لم تمهلهم، فاضطروا إلى التوجه إلى العريش، وقد دمر العدو جسر (أبو عجيلة) ليمنع الإمدادات التى يمكن أن تأتى للجيش أو للإخوان من الإسماعيلية.. وبوصول الإخوان العريش، وجــدوا قــوات كبيـــرة من الجـــيش، تقـوم بتحصين نفسها فى مرتفعات (لحض)، وفى أثنــاء ذلك قَــدِمت طلائع العــدو لتشتبك مع قــوات الجيــش، وقد اشتبــك الإخــوان -وكانوا يحتلون الأجزاء الأمامية- مع قوات العدو ليرغموهم على التراجع من حيث أتوا.