قصة لا تُرد..!! بقلم/ سكينة إبراهيم اهداء إلي المختفين قسريا وذويهم

هذه القصة اهداء إلي المختفين قسريا وذويهم…بمناسبة اليوم العالمي للاخفاء القسري…

#لا_للاخفاء_القسري
#اوقفوا_الاختفاء_القسري

لا تُرد..!!

بقلم/ سكينة إبراهيم

بعد شجار وغضب متواصل لعدة أيام، أعدت له زوجته طعام الغداء؛ هذا الذي بات سببا دائما في المشاحنات بينهما لأنها اعتادت أن تعمد به إلي خادمة في حين أن تلك الأخيرة -والتي إلتحقت بالعمل لديهم مؤخرا- مختلفة عن كل السابقات لها؛ فهي لا تجيد الطهي أو أعمال المطبخ كما يصفها هو دائما رغم ثناء زوجته وكل من ذاق طعامها عليها.
وكمحاولة من الزوجة لوضع حد لتلك العاصفة الدامية في البيت، قامت بنفسها وأعدت الطعام، وظنت أن المشكلات بذلك قد انتهت، ومثلها ظن ذلك هو أيضا، فأقبل علي الطعام بشهية كبيرة، فقد كان كالمخاصم له منذ ليالٍ عدة، وما أن بدأ يأكل حتي تبين أن الطعام خالٍ من الملح أو التوابل تماما، سأل زوجته التي أكدت أنها وضعت منهما الكميات المناسبة التي اعتادوا عليها، فتذوق مليّا في تلك المرة، وهمّ يأكل مرة أخري؛ لكنه لم يجد سوي المرارة الشديدة في فمه؛ تناول عبوة الملح وأخذ يضع منها بعض الكميات البسيطة، لكن الطعام مازال مُرا كما هو، تناول عبوة التوابل ووضع منها بعضها دون فائدة، فتح العبوات وبدأ يقذف منهما في الطعام الكثير والكثير، فعل ذلك بغضب شديد، ثم فقد السيطرة علي نفسه وأعصابه متهما زوجته بأنها فاشلة، لا تجيد إدارة المنزل ولا أبسط أعماله، وفي غضبه هذا لم يفته أن ينعتها بوابل من السباب نال فيه منها ومن أهلها وكل من يمت لها بصلة..ثم ترك المنزل غاضبا وأغلق خلفه الباب بكل قسوة وعنف..!
*
في الطريق لم تنجح محاولاته مع نفسه كي يهدأ أو يفارق الغضب، ظلّ ذهنه متعلقا ببطنه ومعدته الفارغة من الطعام والتي كاد معه جسده أن تنهار قواه، ارتمي علي أول كرسي لأول مطعم صادفه، وبدون أن ينظر لقائمة الطعام، أغلق عينيه وطلب من النادل أن يجلب له كل الأصناف الجيدة لديهم وبكميات كبيرة لأنه جائع جدا، وبالفعل فعل ذلك النادل وبسرعة، وعلي عجل فتح “الزبون” عينيه وشرع في تناول الطعام الذي أمامه حتي دون أن يتبين نوعه أو كنهه، وما أن وضع الملعقة الأولي في فمه حتي ألقي به سريعا بتكلف وسخط شديد وأخذ في شرب الكثير والكثير من الماء ليتخلص فمه من هذا الطعم شديد المرارة، قلب الطاولة رأسا علي عقب، وأسقط كل ما عليها من طعام وهو يكيل السباب والتقبيح للمحل والنادل وكل العاملين هناك، انصرف دون أن يدفع الحساب، وبالطبع لم يجرؤ أحد علي متابعته أو حتي عن سؤاله عن سبب غضبه الشديد.
*
جلس في سيارته بعض الوقت، وحتي الآن لم يستطع أن يتمالك نفسه أو حتي أن يفكر جيدا من شدة الجوع وكثرة نوبات الغضب وحماقاته، تناول هاتفه وطلب أحد الوجبات السرعية المحببة إليه، وقبل أن يغلق فكر قليلا ثم طلب معها الكثير من المشهيات والمقبلات، وبالفعل وصل الطلب حتي سيارته التي ظلّ جالسا فيها لحين يتناول الطعام، وقد كانت نظرة واحدة لوجبته السريعة المفضلة تلك كافية كي تجعله يقبل عليها بنَهم، ومع ذلك فقد ابتدأ في تناول المقبلات والمشهيات واحدة تلو الأخري وبشكل سريع خشية أن يشعر بطعمها فقد كان يبتلعها كمن يبتلع أقراصا من الدواء ظنا منه أن في هذا العلاج لما يعتري الطعام في تلك الأيام من سوء مذاق، وما أن همّ بقضم أول قطعة من وجبته السريعة، إلا وقد وجدها غاية في المرارة لاذعة لا يكاد يستسيغ منها لقمة واحدة رغم كل المشهيات المصاحبة والسابقة، ومع ذلك ولأن الإعياء قد بلغ منه مبلغا، ولأنه لا يوجد من يفرغ فيه جام غضبه، فقد ابتلع الوجبة السريعة في لقيمات كبيرة متتالية بلا مضغ، علّها فقط تصل إلي معدته لتستقر فيها فتعطيه بعض القوة للوقوف ومتابعة الحياة..!
*
فتح نافذة السيارة ورمي بعصبيته المعتادة ما تبقي من الوجبة وما لديه من قمامة في السيارة، ثم مال علي كرسيه ليفكر فيما حدث خلال الأيام القليلة المنقضية، فكلما ظنّ أن مرارة الطعام مبعثها شخص ما، تبين أن الأمر لا يتوقف عند أحدهم، بل إنما تكمن المشكلة فيه هو نفسه، ومن ثم فربما قد أصابه مرض ما يحيل الطعام في فمه إلي تلك المرارة القاسية، ولذا فحل هذا الأمر ليس في أكثر من الذهاب إلي الطبيب. ارتاح للفكرة، و كان بها كمن وجدّ حلا لمشكلة مؤرقة بسهولة ويسر.
حاول أن يتحلي ببعض الهدوء وعزم علي مصالحة زوجته وإخبارها بأنه مريض؛ فربما كان ذلك سببا في جلب عطفها وإشفاقها عليه بعد كل الإهنات التي وجهها لها. وعندما وصل إلي منزله ليلا، وجده فارغا من الأثاث تماما، ووجد ملابسه مبعثرة متناثرة في أرجائه ومعهم ورقة صغيرة مكتوب عليها :”أريد الطلاق سريعا ومعه كل حقوقي؛ وإلا فأنت تعرف ما الذي يستطيع والدي أن يفعله بك!!”..
أطبق أصابعه علي الورقة فمزقها، و جزّ بأسنانه علي شفتيه؛ فهو بالفعل يعرف ما الذي يستطيع والدها لواء الشرطة أن يفعله به، وهو الذي قد ساعده من قبل في ترقياته الإستثنائية الكثيرة حتي صار ذا مركز مرموق في جهاز “الأمن الوطني”،

ورغم أنه من جانبه لا يألو جهدا في التنكيل بأي معتقل يقع تحت يديه تقربا بذلك إلي رؤسائه، إلا أن وجود صهره خلفه قد ساعده كثيرا وأغدق عليه الحوافز والبدلات والمنح حتي ارتفع راتبه إلي حد لم يتوقعه في فترة وجيزة.
ارتمي علي الأرض رافضا تصديق كل ما حدث له في تلك الأيام وبشكل سريع، نادما أن تضطرب حياته إلي هذا الحد لمجرد مرض عابر أصابه دون أن يدري..
**
وفي الصباح اتجه من فوره إلي مكتبه عازما أن يفرغ جل غيظه فيمن يقع تحت يديه في هذا اليوم؛ وفي الممر الموصل إلي مكتبه كانت مجموعة من “المختفين قسرا” يتراصون مغمضي العينين معقودا وثاق أقدامهم، في حين حُلت أيديهم فقط في تلك اللحظة حتي يتناولون الطعام المفروض عليهم ليبقوا علي قيد الحياة؛ تطلع الضابط “الجائع” إلي وجوه هؤلاء فوجدهم يلتهمون أكواب “اللبن الزبادي” وهم مطمئنون راضون، تغلب علي وجناتهم الإبتسامه والتي تظهر بصعوبة من خلف التورم والإحمرار الذي يعلو وجههم من فرط التعذيب، تبدو ألسنتهم وهي تأكل تعج بالتسبيح والحمد والشكر..فاتت معاني تلك الإشارات علي الضابط ولم يتوقف سوي عند إلتهامهم الطعام بشغف؛ فاتجه إلي مكتبه ركضا وضغط علي الجرس المجاور له، وفي لحيظة كان “عسكري المراسلة” يقف أمامه، فأمره بإحضار كوبا من اللبن الزبادي سريعا، وبالفعل لم تنقضِ أكثر من ثوانٍ معدودة وكان كوبا من أفخر محال الألبان علي مكتب الضابط، وما إن رآه حتي اشتدّ حنقه وأمسكه ملقيا به في وجه “العسكري” مشفوعا بوابل من السباب والتقبيح، ولم يفهم “المراسلة” أو يستوعب مكمن الخطأ، وإن كان علي إستعداد لتفاديه مهما كان حتي يسلم من هذا السب المباشر لأهله وعرضه ونسبه، أدار الضابط ظهره وحدث العسكري بكبرياء تفضح تكلفه تلك الكلمات المتقطعة التي تحدث بها، حيث أعاد الطلب علي العسكري ذاكرا له في هذا المرة أنه يريد من هذا الكوب الذي كان يأكل منه “المختفين قسرا” في الصباح، وهنا أدرك “المراسلة” المطلوب بالضبط واتجه من فوره لإحضاره، بعدها هدأت موجة سخط الضابط قليلا، وصرف “العسكري” دون كلمة شكر أو ثناء كالعادة، وأمسك بالملعقة وبدأ يأكل ممنيا نفسه بسعادة ورضا كالتي رآها صباحا علي وجوه أسراه…ولكنه وكالعادة له في تلك الأيام، ومع أول ملعقة له شعر وكأن علقما يزور فاه، ولكنه ابتلعه سريعا لأنه أدرك أن الطعام لابد وأن ينزل جسده حتي وإن كان علقما حتي يتعافي من هذا المرض العابر الذي أصابه..
ولأن غضبه كان قد استبد به؛ فقد قرر أن يفرغه في تلك المرة في الأسري الموثقي الأيدي والأعين، فنادي علي حاشيته أن تأتي له بتلك المجموعة التي كانت تأكل صباحا حتي ينتقم منهم حقدا علي تلك الإبتسامة التي رآها علي محياهم وهم يأكلون..
وبالفعل بدأ في جلد “المختفين قسرا” بجنزير طويل من الحديد يتم توصيله من آن لآخر بالكهرباء حتي يكون أشد فتكا وأكثر إيلاما، وعندها تصل صرخاتهم إلي أبعد أمد، وهو لا يكف عن فعله هذا إلا عندما تكل يداه وتتعبان…
اكتفي من حلقة التعذيب تلك فأمر بإعادة المختفين إلي زنازينهم، وحين هموا بالانصراف سمع من بعيد همهمات أحدهم يقول في نفسه:”اللهم انتقم منه وحقق فيه دعوة أمي ..”..استوقفته الكلمات وكأنها نزلت علي مسمعه كسياط لاذعة؛ فنادي بأعلي صوته علي قائلها، وأبقي عليه في مكتبه يُنزل عليه أشد العقاب، ولم يصرفه إلا بعد أن أمر بوضعه في قبو إنفرادي، ومنع عنه الطعام والشراب، كما قرر أن يشرف هو بنفسه علي تعذيبه عبر نوبات من الكهرباء خاصة في الصباح والمساء..
*
عاد إلي بيته عصرا وكأن شيئا لم يحدث، و كان قد نسي أن منزله بلا أثاث، فقد غلبه الإرهاق الشديد وكثرة الهم والمشكلات، في حين كان يستعد لزيارة الطبيب مساء، أطرق إلي الحائط يفكر رغما عنه، وقد ساعده التأمل في الفراغ واللاشيء من حوله، أن يراها أمامه رأي العين وكأنها حقيقة تُحدثه في بيته، تلك الأم التي قد جاءت من قبل تسأل عن ابنها الطالب الجامعي والذي اختطفته قوات الأمن من منزله بلا تهمة أو جريرة، وقد سألت عنه في كل الأقسام ومديريات الأمن، حتي أكد لها ذوي الخبرة أن أغلب الظن وجوده في احدي مقرات الأمن الوطني حيث يقبع هناك أكثر “المختفين قسرا”، وقد نصحها الناصحون بعد الذهاب إذا أرادت النجاة، ولكنها كأم لوحيد جاءها بعد طول انتظار، فربته علي الأخلاق والدين، حتي صار نموذجا لكل من حوله رغم صغر سنه، فهذا النبت الصالح يستحق منها التضحية مهما كانت.. وعلي ذلك فقد أجمعت أمرها وذهبت إلي هناك بمفردها تسأل عنه، ولأنها باغتت كل من هناك بمحاولتها مقابلة أي ضابط مسؤول لتسأله عن ابنها، فما كان من هذا الضابط إلا أن ظهر لها كالشبح المخيف، فصفعها علي وجهها، ولم يثنيه عن ذلك خمارها أو حتي كبر سنها، هالتها المفاجأة، ولكنها لم تنل من شجعاتها وثباتها، فأخذت تصرخ بأعلي صوت لها تنادي علي ولدها بالاسم وعلي كل من تعرف أنه مختفٍ قسرا من أصدقائه أو جيرانه، فدوي صوتها في المكان كالرعد يزلزل الأركان، سمع ابنها الشاب صوتها فعرفه، فأخذ

هو أيضا ينادي عليها من الداخل، وشاركه في ذلك كل من معه من المختفين، فبدا المشهد كالطوفان الذي يهدد بالإنفجار، وعلي الفور أمسك الضابط بالسياط في يده وأخذ ينزل بها علي جسد الأم يمزقه، وهي في ذلك تنظر إلي السماء وتقسم علي الله بأعلي صوت لها أن يذيق ضاربها مرارة الحياة ونكدها في الدراين…والمختفون قسرا في الداخل يرددون خلفها ويؤمنون علي ما تقول…مرت دقائق وكأنها ساعات طوال، بعدها كانت الأم نزيلة في احدي السجون، والمختفون قسرا في “حفلة” خاصة للتعذيب تركت آثارها علي أجسادهم إلي الآن، مع وعد ووعيد بالمزيد والمزيد من الكي والنيران..
*
أفاق الضابط من غفوته السريعة وأخذ ينظر حوله ليتأكد أنه كان يري تلك الأم في المنام فقط، وأنها مازلت سجينة لم تزره في بيته أو تجلس أمامه..!
غادر المنزل علي عجل ولم يتناول أي طعام، مؤملا نفسه أنه سيأكل بعد العلاج كثيرا بدلا من أن يضطر مثل الأمس أن يبتلع طعاما بلا مضغ، وهناك شرع الطبيب في فحصه جيدا، وفي النظر إلي تحاليله التي أجراها، ولكنه سرعان ما أخبره أنه ليس مريضا بشيء، وأن ليس ثمة سبب عضوي يمنع عنه تذوق الطعام، أو يحيله إلي علقم في فمه، استمع إليه الضابط شاغرا فاه شاردا، ترن حوله دعوات الأم فيطبق علي أذنيه كي لا يسمعها، ويحاول أن يتجاوز ذلك فيسأل عن أي دواء لمثل حالته تلك..لكن الطبيب أُسقط في يده، وأخبره بأن عليه أن يزور طبيبا نفسيا..وكالعادة استبد الغضب بالضابط وانهال علي الطبيب صفعا وركلا..
ثم انصرف من العيادة وهو يجري بعض المحادثات الهاتفية، وصلت بعدها بعض سيارات الأمن الوطني إلي عيادة الطبيب فاعتقلته وأخفته قسرا..!
قرر الضابط أن يستمر في ابتلاع الطعام بلا مضغ، وأن يسرف في تناول الماء عليه حتي يختفي مذاقه تماما، وفي اليوم التالي ذهب إلي مكتبه وفي يده زجاجة “قطرة” يتظاهر بأنه يضع منها في عينيه، حتي يُخفي تلك الدمعات التي تباغته في النزول من آن لآخر، يتحسر فيها علي ما وصلت إليه حياته من دمار وألم، في حين أنه لم يستطع أن يصدر لتلك الدمعات قرارا بالإخفاء القسري..!!