عمر التلمساني كما عرفته..شهادة العالم الداعية محمد الغزالي

كنت في شبابي أرى الأستاذ عمر التلمساني يتردد على الأستاذ المرشد العام، ويتحدث معه في شئون الدعوة، ويتزود منه بشتى التوجيهات:

كان يومئذ يشتغل بالمحاماة، وله مكتبه في بلدة شبين القناطر وكان إلى جانب ذلك عضوًا في مكتب الإرشاد. السمة العامة التي كنا نعرفه بها: وجهه البشوش وأدبه الجم وصوته الهادئ، وظاهر من حالته أنه كان على جانب من اليسار والسعة لا يسلكه في عداد المترفين، وإنما يحصنه من متاعب الكدح ومعاناة التطواف هنا وهناك، ويحفظ عليه حياءه الجم. وقد حمل الرجل في شبابه أعباء الدعوة الإسلامية في غربتها، ورأيته يومًا ينصرف من مكتب أستاذنا حسن البنا بعد لقاء لم أتبين موضوعه، ورأيت بصر الأستاذ المرشد يتبعه وهو يولّى بعاطفة ناطقة غامرة، وحب مكين عميق، فأدركت أن للأستاذ عمر مكانة خاصة لم يفصح عنها حديث. كان ذلك في أوائل الأربعينيات من القرن الميلادي، ولم أكن أدري ولا خطر ببالي يومئذ أن عمر التلمساني سيخلف حسن البنا، وأنه سيقود ركب الدعاة في أيام عصيبة.. محنة وقى الله شرها .

واستشهد الإمام البنا سنة 1949م، واعتقل الألوف من أتباعه، وكان من قدري أن أساق إلى منفى الطور مع بضعة آلاف من الإخوان، وفي طور سيناء رأيت الأستاذ عمر التلمساني في خطواته الوئيدة ونظراته الهادئة يمشي في رمال المعتقل باسماً متفائلاً يصبّر الإخوان على لأواء الغربة وقسوة النفي، ويؤمل الخير في المستقبل.

وحدثت بيننا وبين إدارة المعتقل جفوة خطيرة، لأننا أحسسنا بأن أقواتنا تسرق، وأن تجويعنا مقصود، وبدأنا حركة تمرد كادت تنتهي بمذبحة لولا لطف الله.

ولقيني الأستاذ عمر طيب الله ثراه يقول: محنة وقانا الله شرها، إنك تصرفت بحدة الشباب ومغامرته، ورأيي أن الأمور تعالج بغير هذا الأسلوب.

وشرعت أستمع إليه وهو يشرح فلسفته في الحياة يقول:

أنا أكره الظلم وأرثي للظلمة، أنا أكره أعمالهم وحسب، ولا أحقد على أشخاصهم بل أرجو لهم التوبة، وأدعو الله تعالى أن يبصرهم الحق، ويلهمهم الرشد.. ورأيتني أمام رجل من طراز فذ، تحركه في الدنيا مشاعر الحب والسلام، وكأنما فيه قال الشاعر: أنا نفس محبة كلَّ نفس كلَّ حيّ، حتى صغير النبات..!!

من شمائله 

كان عمر التلمساني يكره الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، ويؤثر العزلة، ويرى أنسه في الانقطاع إلى الله، ولم يكن رذائل الرياء والتطلع تعرف طريقا إلى فؤاده، وربما استفاد من مهنته – المحاماة- أن يعرض قضيته بوفاء وشرف، وأن يدع القضاء بعد ذلك يصدر حكمه، فإن كان له رضي، وإن كان ضده قرر أن يستأنفه ليعيد الشرح والإيضاح، وهكذا فعل في قضية الإسلام كله عندما كُلّف بالدفاع عنها أمام الجاهلين والجائرين، كان يلوذ بالنفس الطويل والصبر الجميل، ويحاول بالإقناع المتكرر أن يبلغ هدفه.

وخلال النزاع المحتدم تراه طيب النفس، بادي السماحة، يرمق خصوم الحق وهو يردد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).

ومات حسن البنا، ومات بعده حسن الهضيبي، وشغر المنصب الكبير، وشعرت القافلة المحزونة بأنها تتحمل الكثير في سبيل الله، قتل والله رجال أكابر طالما باتوا لله سجدا وقياما، وطاحت هامات قضاة ودعاة وشيب وشباب كانوا زينة المحافل.. وعشش في السجون آباء تركوا بناتهم في أعمار الورود، فلما خرجوا كانت البنات قد تزوجن

ويا هول ما نزل بضيوف السجن من عذاب

لقد استقدمت كل وسائل التعذيب التي استخدمها ستالين وهتلر حديثا، وفراعنة الشرق والغرب قديماً، فمات من مات وهو يرى في الموت راحته، على نحو ما قال أبو الطيب: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانينا وأما من تخطته المنون لأمر ما فقد عاش مقتول الروح كسير الفؤاد غريبا على الدنيا.. نحتسب ما أصابنا..

وفي وسط الأنواء العاصفة قيل لعمر التلمساني: احمل العلم قبل أن يسقط.

وغضب لفيف من الناس لهذا التكليف، لماذا؟ قالوا: في غمرات المحن التي أصابتنا، وأصابت عمر التلمساني معنا، مات جمال عبد الناصر الآمر بكل ما قاسينا من مصائب، وتنفس الصعداء كثير من السجناء، ولكن الخبر لما بلغ الأستاذ عمر التلمساني قال: مات؟ انتهى؟ ذهب إلى الله! الله يرحمه..!! وتصايح الإخوان في غضب: ماذا تقول؟ وبم تدعو؟ كيف يرحم الله قاتل العشرات، وجلاد الآلاف، وقاهر الجماهير، ومزهق كرامتها ورجولتها؟؟ بيد أن عمر التلمساني قال: نحتسب ما أصابنا في سبيل الله، ولا داعي للشماتة..!!

ورأيي أن عمر التلمساني كان صادقاً مع طبيعته، وكأنما كان اختبارا إلهياً أخيرا للقوى المعادية للإسلام، فإن من أبى التفاهم مع الرجل، ورفض لقاءه وأصر على حرب الدعوة وأهدافها النبيلة كما شرحها المرشد الثالث فلن تكون له عند الله وجاهة ولن تنهض له حجة ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)( الشورى- 16).

وذهبت إلى الأستاذ عمر التلمساني لأتعاون معه على خدمة الإسلام، فقال لي: تعلم أن هذا عبء تحملته برغمي، وقبلته وأنا كاره، قلت: أعلم ذلك، قال: والله لو وجدت من يريحني منه ما ترددت في تركه له. قلت: أعلم ذلك.

ومن أجل ما أعرفه عنك جئت إليك وأنا موقن بأن الله سيؤيدك، فأنت ما سعيت إلى صدارة ولا تطلعت إلى إمارة، ومثلك جدير برعاية الله وتسديده.

قال: لست داعية حرب ولا ذلك من شيمي، ولا تعلمت هذا من حسن البنا.. سأجتهد في جمع فلول الإخوان بعد المحن الرهيبة التي وقعت بهم، وسأعتمد على الله في تكوين قاعدة شعبية عريضة تحيا بالإسلام.. وتكون صورة وضيئة له.

صنفان 

وكان يزعجه صنفان من الناس..

الأول: الساسة الضائقون بدين الله النافرون من تعاليمه، وموقفه منهم رحمه الله التريث والمهادنة وإسداء النصح بأدب، وعندما أحرجه أنور السادات قال عمر التلمساني: إذن أشكوك إلى الله، ولما رد عليه السادات: اسحب هذا الشكوى – ولا أدري أكان جاداً أم هازلاً؟- قال له: إنني أشكوك إلى الله وهو عادل..!

الحق أن عمر التلمساني كان ملكاً كريما في إهاب بشر أرهقته السنون، وأن الذين أبوا من الساسة المحترفين أن يستمعوا إليه لم يكونوا من أهل الإسلام، ولا من بغاة الخير لأمته..

أما الصنف الثاني: فهو الشباب الشديد الحماس، القليل التجربة، الراغب في الاستشهاد ولما يتهيأ الميدان له بعد.

كان الأستاذ عمر شديد الحنو على هؤلاء الفتية، شديد الرغبة في المحافظة على حياتهم وتجنيبهم معارك لا يستفيد منها إلا أعداء الإسلام.. وهو يرى- والحق معه- أن نفرا من الساسة يدور في فلك إحدى الجبهتين العاملتين المتنافستين.. وكلتاهما تكره الإسلام وتكيد له، وكان رحمه الله يكره تمكين هذا النفر من البطش بالإسلاميين لحساب سادته الدهاة المستخفين، ويقول: لا معنى لتكثير الضحايا، والزج بالإسلام في معارك خاسرة..! وأذكر أنه عندما وقعت فتنة الزاوية الحمراء ذهبنا إلى وزير الداخلية الأسبق، أنا وعدد من رجال الجمعيات الإسلامية، وعلى رأسنا الأستاذ عمر، وكنا غضابا لما وقع على المسلمين من عدوان.. وقال لنا الوزير: عاونوني على إطفاء الفتنة، ولكم ما تطلبون بعد إخمادها.

وشاء الله أن تثمر جهودنا في إعادة الاستقرار إلى المنطقة، وألقيت كلمة في الحفل الذي أقيم عند وضع الحجر الأساسي للمسجد جلوت فيه طبيعة الإسلام في أمثال هذه الأحداث..

وقد لاحظت أن ناسا مُريبين كانوا يشتهون إلصاق التهم بالمسلمين.

والغريب أن هؤلاء الناس أنفسهم حاولوا في فتنة فرق الأمن المركزي أن يختلقوا أمورا لا أصل لها البتة كي يجعلوا المتدينين مسؤولين عن تعكير الأمن.

قال لي الأستاذ عمر: إنني حريص على حماية الدعوة من أولئك الذين يتلمسون العيوب للأبرياء، حريص على حماية الشباب المؤمن من أن يُقاد إلى السجون ويتعرض للتعذيب كي تُثبت عليه تهم باطلة.

وعلى أولئك الشبان الطيبين أن يضبطوا حماسهم حتى لا يمكنوا الأشرار منهم، إن سذاجتهم قد تكون مزلقة لهم إلى ما نكره.