في كل مرة يؤتي به إلي المحكمة ويتم تمكينه من الكلام ، يهز أركان القلوب قبل أن تهتز لكلماته أرجاء المكان ، ويخيم الصمت علي هيئة المحكمة و المحيطين به من رجال الأمن وكأن علي رؤوسهم الطير …هكذا ظهر في ساحة المحكمة مؤخرا الدكتور محمد بديع ( 73عاما ) المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ، وأحد أبرز العلماء العرب في تخصصه ، واضعا هيئة المحكمة أمام السؤال الكبير الذي لم – ولن – تجيب عليه : من قتل آلاف المصريين في رابعة ؟! تحاكموننا علي القتل … فهل يعقل أقتل ابني ” عمار ” ؟!
لقد نال ذلك العالم الجليل الذي صنفته الموسوعة العلمية العربية الصادرة عن الهيئة العامة للاستعلامات المصرية عام 1999م كواحد من “أعظم مائة عالم عربي .. أقول : ناله من قضاء الانقلاب حتي الآن ثلاثة أحكام بالإعدام وثلاثة بالمؤبد ، فيما تم الحكم فيه من القضايا الملفقة والتي تبلغ خمسين قضية ، بصفته المرشد العام لجماعة الاخوان .وقد أعلن اعتزازه بذلك ، بل إن صوته “جلجل ” في أرجاء المحكمة لتسمع الدنيا ثباته علي مبدئه : ” تهون الحياة ، وكل يهون ولكن إسلامنا لا يهون ” .
هذا الكلام لم يقله مرشد الإخوان في مؤتمر جماهيري وهو آمن علي نفسه ، لكنه قاله وهو يرتدي بدلة الإعدام ، وفي ساحة الانقلاب وفي قبضة جلاديه .
هذا هو القائد الحق …
لم يفر ، وقد قالها من فوق منصة ” رابعة ” عندما أشاعوا أنه هرب : ” أنا لم أفر … فنحن لسنا فرارا ” ، ولم يهن أو يضعف أو يغير من موقفه ، فمازال يعلن بأعلي صوته أن ما وقع في مصر هو انقلاب دموي .
هذا هو القائد الحق الأجدر بالقيادة …
عندما يقع البلاء وتشتد المِحنة ، يتشبث بموقعه ويعض عليه بالنواجز حتي آخر نفس في حياته، وفاء لبيعته مع الله .
وتلك هي القيادة التي تثبت ثبات الجبال الرواسي دون تفريط أو تردد ، لا تهزها اتهامات أو تشويهات أو سباب ، ولا ابتلاءات أوسجون أوتعذيب !
إن القيادة التي تعتز بموقعها وهي ترتدي البدلة الحمراء وحبال المشانق تتدلي من فوق رؤوسها هي القيادة الحقة، ولو أرادوا دنيا ، وسعوا إلي مغانم لتخلوا ونفضوا كواهلهم انتسابهم للإخوان، وعندها تأتيهم الدنيا بكل زخارفها .
لقد باع هؤلاء أنفسهم لله في سبيل دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة في شبابهم ، فالدكتور محمد بديع عاش شبابه في سجون عبد الناصر ( 1965 م ) ، وهكذا معظم أقرانه .
في عصر الانقلاب، نتابع وقائع ملحمة نادرة في تاريخ الدعوات الإصلاحية ، وملحمة فريدة في سجل الدعوات الربانية ، يخوضها ما يقرب من ستين ألف مختطف ، ويقود تلك الملحمة بكل جسارة وتجرد ذلك المرشد الصامد ، وذلك المرشد السابق سجين كل العصور ،وذاك الرئيس الثابت الصابر ، ومعهم معظم مكتب إرشاد الجماعة ، وبثباتهم استمرت شرعية جماعة الإخوان رغم أنف من يحاولون مسحها من الوجود ، وترسخت شرعية خيار واختيار الشعب المصري رغم أنف من حاولوا الالتفاف عليها .
و بين فترة وأخري يخرج إلينا من مقبرة العقرب وأقبية الموت البطيئ صناع تلك الملحمة وهم هم علي ثباتهم وصمودهم ، فيحيون الأمل في النفوس، ويرسخون الثقة في نصر الله لعباده ، دون أن يغيروا أو يتغيروا ” مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا “
[ الأحزاب : 23 ]