دية القاتل.. رفضها أولياء الدم في رابعة فهل ترفضها عائلة خاشقجي؟

بعد كل جريمة يحتاج القاتل إلى من يغسل يده من الدماء ومن ينظف مكان الجريمة، ثم من يغلق الملف مقترحًا على أهل الضحية قبول التعويض وإغلاق أفواههم إلى الأبد، ولا يختلف ذلك بين ما تعرضه الرياض على أهل الشهيد جمال خاشقجي الذي قتله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان غدرًا وخيانة واستدراجًا في قنصلية بلاده في تركيا، وبين الآلاف الذين سفك السفيه قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي دماءهم في رابعة والنهضة، وغيرهما من المجازر المستمرة في كل شبر على أرض مصر.

الديّة بدل القصاص.. أي عدل تسعى إليه الرياض بقضية خاشقجي؟ أم هو نفسه العدل الذي دعا إليه الشيخ ياسر برهامي، نائب رئيس الدعوة السلفية الذراع الدينية للمخابرات الحربية، شباب جماعة الإخوان والمتعاطفين معهم إلى عدم المشاركة في أي اعتصامات أو مظاهرات ضد الانقلاب؛ لأنها– بحسب التعليمات- قطعًا ستؤدي إلى مزيد من سفك الدماء والتخريب، ولن ترفع ظلمًا بل ستزيده، ولن تغير واقعًا ولن تأتي بشرعية مرسي إلى الحكم مرة أخرى”، بحسب قوله.

من رابعة إلى القنصلية

ثمة إجماع على أن ما حدث هو تصفية سياسية وجنائية بطريقة وحشية.. هذا الاتساع في الإجماع الأممي جعل من كرة الثلج التي تتدحرج تكبر وتكبر، حتى ضاقت بها مساحة الربع الخالي على اتساعها، وثمة من يسعى لإيقافها وهو دونالد ترامب وصهره؛ خشية أن تطيح برؤوس ترتبط بمصالح مالية ظنت نفسها فوق القانون، في المجمل تصبّ الأسئلة كلها في قناة واحدة: “أين جثة جمال؟”، ثم ما هو مصير العلاقة السعودية الأوروبية؟.

وفي مذبحة رابعة التي قتل فيها الآلاف، طلب برهامي من الجنرال القاتل دفع الدية الشرعية لأهالي الضحايا الذين حصدتهم آلة الانقلاب العسكري، بجانب إجراء القاتل بنفسه تحقيقًا في فض الاعتصام، ولكن بعد استقرار الانقلاب لوصول الحقوق إلى أصحابها، تلك الحقوق التي ليس من بينها بالطبع محاكمة القاتل ولا عودة الشرعية للشعب!.

وعلى طريقة شيوخ آل سعود الذين انبروا لغسل أيادي القاتل، وكان آخرهم الشيخ الفوزان، زعم برهامي أن السفيه عبد الفتاح السيسي بريء من قتل المتظاهرين في رابعة ولم يدع إلى قتل العُزَل، مشيرًا إلى أن الدماء التي أريقت يتحملها الإخوان وهم جزء من الضحايا؛ عقابًا لهم على دعوتهم إلى رفض الانقلاب والصدام مع العسكر، رافضين كل الإغراءات قبل المذبحة، إلى جانب أن برهامي بحث عن كبش فداء فكان الداخلية نفسها على أساس أن ثورة 25 يناير في الأساس قامت بسببها، ومن اليسير جدا أن تعقد محاكمات صورية يعاقب فيها ضابط أو اثنان من ذوي الرتب الصغيرة.

أمام هذا الواقع؛ لم يعد بإمكان السعودية التنصل من مسئوليتها التاريخية في تصفية الصحفي جمال خاشقجي، كون أمر القتل جاء من أعلى مستوى وفق وسائل إعلام موثوقة وتسريبات رسمية، ولم تعد المؤسسات السعودية الرسمية قادرة على تسويق رواية إضافية، أو اللعب على عامل المساحة الزمنية والمماطلة بهدف “تذويب” القضية، والسعي لتخفيف الأسئلة الإعلامية وصولا إلى التجفيف الذي تأمل به السعودية، التي أظهرت حجم القلق الداخلي، ومدى تأزمها عالميا أمام واقعة إعدام وتقطيع، كان الهدف من وراءها التخلص من انتقادات موضوعية وبنّاءة وموقف متزن للصحفي خاشقجي عبر كتاباته منذ التحاقه بصحيفة “واشنطن بوست”.

السعودية اعترفت بعد محاصرة “فريق النمور” بالأدلة الجريمة التي جمعتها تركيا بسرعة وذكاء في تعقب أثر الجريمة، وكان الاعتراف وفق قاعدة “مكره أخاك لا بطل”.. وعلى الرغم من الاعتراف غير المكتمل، والكشف عن مكان الجثة أو على الأغلب بقاياها، وبعد أن ظنت السعودية أن الإعلام الأمريكي بدأ ما بعد خطاب أردوغان بتخفيف حدةّ التغطية المتعلق بقضية خاشقجي، لم يسعفها “حسن ظنها” المبني على “افتراض” الطمأنينة من جهات أمريكية وتحديدا شخص الرئيس “ترامب” بإغلاق الملف.

هذا الافتراض لم يرق للعديد من الجمهوريين والديمقراطيين، مما دفع بالسعودية من جديد إلى اختلاق روايات إعلامية جديدة ممتلئة بالزيف، مثل اتهام جمال خاشقجي بأنه “إسلامي خطير” وصديق لأسامة بن لادن، وربما لاحقا يوجه له اتهام بأنه من كبار المسئولين في تنظيم “داعش”!.

تركيا لن تصمت

هذه الاتهامات وغيرها لم تلق أي قبول في الذهنية الأوروبية والأمريكية، بل على العكس عزز هذا الكلام عدم مصداقية أي رواية سعودية قادمة، ناهيك عن تحرك سعودي مواز لوقف، أو فلنقل تخفيف حدّة الإعلام الغربي، بالإضافة إلى “قناة الجزيرة” تحديدًا، وإبعاد الضوء عن الشهيد ومقصلته، وأيضا محاولات السعودية تقديم “استثمارات” بالمليارات لتركيا، ورفع الحصار عن قطر مقابل “طي ملف القضية”، وهو ما رفضته تركيا واعتبرت ذلك “رشوة” بهدف السكوت.

ولعل ما ورد عن السلطات العليا في الرياض، والمتعلق بدفع “الديّة” يعد خطيئة أخرى تقع فيها الرياض، وخطأ وقع فيه السفيه السيسي بعد مذبحة رابعة والنهضة، لأن الأصل في الموضوع أن ما حصل للصحفي جمال هو جريمة سياسية وجنائية معد لها مسبقًا، وهو ما يعني أن القتل لم يكن ناتجًا عن حالة دهس خاطئ مثلا، أو شجار عابر وقع في الشارع!.

وعليه فإن ما حصل جريمة ارتكبتها “دولة” بشكل استثنائي في الشكل والتنفيذ و”التقطيع”، ولا يتم إنهاء القضية بدفع الدّية، بل “القصاص” من القتلة وفق الشريعة الإسلامية التي تنتهجها السعودية.