“المعمل”.. أقصوصة لعبدالفتاح نافع

عاد من عمله عصرًا يجر معه كل مشكلات العمل وهمومه التي تتراكم عليه منذ أن استلم خطاب التوجه إلي مؤسسته منذ عشرين عامًا ليستلم عمله بها بعد تخرجه ، فهو يصطحبها معه منذ ذلك التاريخ إلي بيته لعله يجد لها حلولًا فيفشل في إيجاد أي حل لأي مشكلة فيحزمها ويُعدها ليصطحبها معه صباحًا إلي مقرها الأصلي ، وهكذا الحال مستمر لا ينقطع ، ذهابًا وإيابًا بها ، حتى أصبحت لا تفارقه وهو لا يَغرم لها شيئًا فلا الكمساري يراها في صحبته فيطلب أجرة عليها ولا تقف بجواره بشراهة لتزاحمه طبق الفول بالزيت الحار ومخ البصل الذي يشق بهما ريقه قبل المثول أمام مكتبه ، ولا هي تجلس بجواره علي المقهى ليطلب لها شايًا في الخمسينة يضطر لدفع حسابه ولولا ذلك لما كان تحمل صداقتها له كل هذا العمر ، فهو حقيقة لا يَغرم لها شيئًا ، غير هذا التلف الذي يحدث في خلايا عقله وتلافيفه من كثرة التفكير في هذه الهموم وهذه المشكلات ، لكنه لا يشعر بذلك لأنه لا يكلفه مالًا علي الأقل طالما لا زال بصحته .

وكذلك يجر معها مشكلاته العائلية التي خرج بها صباحًا إلي العمل فلعله يجد لأحدها حلًا عند أولئك الزملاء المخضرمين الذين يتحدثون في كل الأمور بفلسفة العالم ببواطن الأمور ، لكن لا حلول لمشكلاته لديهم غير ذلك الضجيج الذي يحدث بين اثنين من المتفلسفين الذي يري كل واحد منهم أنه هو الذي يوحي إليه من دون الجميع ، ولكنها فلسفة بلا نتائج ولا قوانين ولا طرائق للحل فييأس من الحوار لعدم جدواه ، فيسير بمشكلاته وقد اصطحبته هي أيضًا ورافقته هي ومشكلات العمل ، وهو يتقبل وجودهما معه طالما لن يضطر لإنفاق قرشٍ واحدٍ عليهما…

ومنذ أن دخل إلي بوابة منزله ، مارست كل حواسه هواياتها ، فالأنف يخبره بنوع طعام الغداء ، ويسمع بأذنيه صرخات زوجته التي ذهب أولادها بثلثي عقلها ، والثلث الأخير ما عاد يُحسن إلا التأفف والصراخ ، وتنكسر عينه بدورها لتلبسه حُلة اليأس من راحة يصبو إليها لدقائقٍ قبل أن يعاود النزول ، وتساندها قدماه التي تتراجع خطواتها في عزف سيمفونية اليأس والإحباط اليومي التي لا تبرحه كلما دلف بقدميه إلي هذا البيت الصغير الذي يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده إلا خليطًا من الفوضى ومحاولات بائسة للترتيب.

يدخل صامتًا كعادته التي فرضتها عليه سطوة المشاكل ومتطلبات الحياة التي أثقلت كاهليه وأضافت لعمره عشرين سنة إضافية لا دخل له فيها ، بل يحاول فكاكًا منها لكنه لا يستطيع.

تشعر به زوجته ولكنها لا تأبه به ، فلديها ألف عمل لم تنجزه ، وهي تعمل بثلث طاقتها العقلية ، وهو يعلم ذلك ويلتمس لها الأعذار ، يجر قدميه المثقلتين إلي غرفته ليلقي بجسده علي السرير ، ويرتمي علي سريره مستسلما لتلك الآلام التي تلهب مفاصله ، ولكنه يصرخ بصوت عالٍ فقد ارتمي علي تلكم السيارة المهشمة التي تركها ابنه الأصغر بعدما ملَّ من اللعب بها ، فتركها وانطلق خلف والدته التي نزلت لتشتري حاجياتها من السوق وعادت لتدخل مطبخها لتعد طعام الغداء ، وتركت غرفتهما علي حالها ، ولم يتأذي بها غيره ، نادي عليها ، من ذا الذي ألقي بهذه هاهنا ، فتجيبه وهي تلملم الملابس المتناثرة في عجالة وكأن شيئًا يلاحقها ، لست أدري فربما يكون ابنك الذي فعلها ، فيرتمي ثانية بعد أن يكون قد ألقي بها أرضًا في ضيقٍ وتزمجر.

يسرق من النوم اللذيذ ثواني ، لكنه يستيقظ علي جلبة الأولاد الذين عادوا من مدارسهم ، ويستبقوا الوقت ، ليبدلوا ملابسهم ، ويأكلوا ما تطاله أيديهم ، والأم تصرخ أن اصبروا ، فسنأكل كلنا سويًا ، يجلس وسط أبنائه ، والنوم ذهب عنه ولكنه ترك ذلك الاحمرار القاني الذي ينبئك بكم الألم والإرهاق الذي لا يزال يسكن جسده الذي يصبو إلي راحة مفقودة في عالم يلف الطموح جوانبه..

يطرق برأسه مستسلمًا ، ويغط في نوم عميق ويصدر صوت حشرجة تدل علي الذهاب في وادي النوم السحيق.

ولكنه يستيقظ علي صوت ينادي ، أين الطبيب فلا مُجيب ، فيعاود الكرة يا سيدي أين الطبيب ، فيقوم منتفضًا ويفرك عينه ، ويحاول رسم ابتسامة علي وجهه الذي أضناه التعب ، ويحدثه من أيقظه ، بماذا تريد ، فيعطيه روشتة ، كتبت فيها أنواع من التحاليل ، فيجلس وقد استعاد رتابته ، ستكلفك هذه من المال الكثير.. فيشير إليه بالموافقة ، ويتناول منه النقود ، ويجلس علي الكرسي ينتظر الطبيب…

متى أتي ، لا يهم.

المهم أنه قد قام بالحضور ، وفتح المعمل ، ورتب الأشياء ، وينتظر.. حتى يأتي الطبيب..