الذكرى الثالثة عشر لاستشهاد القائد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي

إني أعيذك أن تذل إلى وثن   ***   أو أن يعود السيف في غمد الجراب

نعم، عبد العزيز الرنتيسي كان شاعرًا أيضًا، لم يحترف الشعر ولم يكن ذا باع فيه، بل كان من يقرأ قصائده ربما يخرج بانطباع أنه ارتجلها على عجل في موقف ما، لكنه حاول الإفصاح عما في داخله شعرًا، وهو الذي اكتشف موهبته في الخطابة فجأة وفي موقف محرج.


الطفل الحافي ورائحة الخبز

عبد العزيز علي عبد الحفيظ الرنتيسي، المولود بقرية يبنا بين عسقلان ويافا في 23 أكتوبر/تشرين الأول 1947، القرية التي لم يرها إلا كهلًا، فقد نزحت أسرته منها إلى مخيم خان يونس بقطاع غزة وهو ابن ستة أشهر بسبب النكبة وإرهاب العصابات الصهيونية.

مشاهد الفقر وشظف العيش وشح الموارد هي أول ما وقعت عليه عينا الطفل عبد العزيز حينما بدأ يعي الموجودات من حوله، فلم تكن أسرته استثناءً من أسر النازحين التاركين بيوتهم بما حوَت، ومثل الأغلبية الساحقة من أطفال المخيمات وجد نفسه مضطرًا للعمل وهو ابن ستة أعوام، كي يساهم في إعالة أسرة وفيرة الأبناء، فهو شقيق لتسعة ذكور وثلاث إناث، ولتقريب الصورة فإنه قضى معظم طفولته حافيًا بلا نعل.

يستعيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي سنوات طفولته الأولى الخشنة، فيتذكر أنه التحق بمدرسة ابتدائية أشبه بالكتاتيب ومبنية من الطين. في الطريق إلى المدرسة مخبز تفوح منه رائحة العجين المختمر والخبز المحمص، لحيظات قليلة مختلسة من المتعة كان يقضيها الطفل عبد العزيز متنسمًا روائح المخبز، ويتذكر كهلًا أنه لم يشبع قط من الخبز طفلًا.

وسوى الخبز ورائحته، كانت الرياضيات شغفه الأول في مقاعد الدرس، غير أن الدرجات العالية التي أحرزها في المرحلة الثانوية أهلته لدراسة الطب، والطب وقتها – كما هو الآن – كان يمنح المشتغلين به مكانة رفيعة واحترامًا مستحقًا في المجتمع، فتهيأ الفتى عبد العزيز لدراسة الطب بجامعة الإسكندرية في مصر، وكانت المشكلة التي واجهته وهو يستعد للسفر هي توفير حذاء.


الطبيب الشاب والمقاوم

حصل الشاب عبد العزيز على بكالوريوس الطب في عام 1973، وعاد لفترة قصيرة إلى قطاع غزة للعمل بمشفى خان يونس، ثم كر راجعًا إلى مصر ليُحضّر رسالة الماجستير ويحصل على الدرجة عام 1975، متخصصًا بطب الأطفال، ولعل رثاءه لطفولة أبناء جيله ألقت في قلبه حبًا فطريًا للأطفال، كما أن رثاءه لظروف أبناء جلدته حملته على تطبيبهم دون مقابل في أحايين كثيرة.

في مسجد خان يونس الكبير تعرف الطبيب الشاب عبد العزيز على مجموعة من المنتمين لحركة الإخوان المسلمين، وكان في كل من الجماعة والشاب ما يغري أحدهما بالاقتراب من الآخر، فميول الشاب عبد العزيز الإسلامية لم تكن خافية، وسمعة الجماعة لم تكن خافتة، فوقع التلاقي وانضم الطبيب الشاب للجماعة في 1978، ثم أدى فريضة الحج في العام التالي.

عهدت الجماعة إليه بمسئولية أمانة خان يونس، وبمسجد المخيم راح يلقي الخطب والدروس المستوحاة من كتب الفقه والتراث، ثم اكتشف قدرته الخطابية ذات مرة حين التبس عليه رقم صفحة من كتاب كان يعد خطبته منها، فألقاها ارتجالًا مستعينًا بقسط وافر من القرآن الكريم حفظه في صباه وأيام دراسته بالجامعة.

في الجامعة الإسلامية بغزة، أسس الدكتور عبد العزيز كلية التمريض مع الدكتور محمود الزهار، وعمل مع قيادات الحركة الإسلامية على تحويل الجامعة كلها إلى بؤرة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، الذي حاصرها واقتحمها وأغلقها مرارًا دون جدوى، ومن منابر المجمع الإسلامي والجمعية الطبية بغزة دعا الرنتيسي إلى عصيان الاحتلال والامتناع عن دفع الضرائب لسلطاته.


السجين والمبعَد

عرف الرنتيسي السجن للمرة الأولى عام 1983، بسبب رفضه دفع الضرائب للاحتلال، وما إن هبت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في ديسمبر/كانون الأول 1987 حتى كان واحدًا من ست قيادات إسلامية اجتمعت مع الشيخ الشهيد أحمد ياسين لتأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وبعدها بشهر واحد في يناير/كانون الثاني 1988 عاود الاحتلال اعتقال الرنتيسي، الذي اشتبك بالأيدي مع القوة التي أتت لأخذه.

بعد أسابيع أُفرج عن الرنتيسي لأيام، قبل أن يُعتقل ثانية في فبراير/شباط ليقضي عامين ونصف في سجون الاحتلال، زميل زنزانة للشيخ أحمد ياسين، ثم عام في الاعتقال الإداري. كان الرنتيسي نزيلًا مشاغبًا، واعتدى ذات مرة على مدير إدارة السجون الإسرائيلي، وعوقب مرارًا بالحبس الانفرادي، فحوّل العقوبة إلى فرصة لإتمام حفظ القرآن.

في ديسمبر/كانون الثاني 1992، لجأت سلطات الاحتلال إلى إبعاد مئات من نشطاء حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى شريط عازل بين شمال فلسطين وجنوب لبنان، في منطقة لا ينسجم اسمها مع طبيعتها: مرج الزهور، وبينما كانت الشاحنات الإسرائيلية تفرغ حمولتها من المبعدين اصطلح هؤلاء على تسمية الرنتيسي مسئولًا عن مخيمهم الوليد ومتحدثًا باسمه.

من مرج الزهور، أطل الرنتيسي على العالم من كاميرات الصحافة، معلنًا الرفض الجماعي للمبعدين لمبدأ العودة على دفعات كما عرض عليهم الاحتلال، وبات وجهًا معروفًا في فلسطين والمنطقة ولدى المتابعين للشأن الفلسطيني في العالم، ومن مرج الزهور أيضًا أعلن الرنتيسي رفضه ورفض المبعدين لاتفاق أوسلو في سبتمبر/أيلول 1993.

وبضغوط عربية ودولية وضغوط من صمود المبعدين، أعادتهم السلطات الإسرائيلية إلى مواطنهم، لكنها اعتقلت عددًا منهم على رأسهم الرنتيسي، الذي لم يُفرج عنه سوى في منتصف عام 1997.

كان على الرنتيسي أن يخوض تجربة السجن والتعذيب في سجون السلطة الفلسطينية، التي استجابت لضغوط الاحتلال واعتقلته في إبريل/نيسان 1998، ولم تفرج عنه سوى بعد عام وثلاثة أشهر عندما لاقت أمه ربها.

اعتقلته السلطة الفلسطينية ثلاث مرات أخرى، ليبلغ مجموع ما قضاه في سجونها 27 شهرًا بجانب فترة اعتقاله الأولى، وخلال فترة اعتقاله الأخيرة اشتعلت انتفاضة الأقصى عام 2000، ولم تفرج عنه السلطة سوى بعد قصف طائرات الاحتلال للسجن الذي كان محتجزًا به في غزة.


القائد والشهيد

يقول ابنه محمد إن القيمة التي كان الرنتيسي أحرص على غرسها في أبنائه هي التشبث بالحق لآخر رمق وبأي ثمن. عندما اشتعلت انتفاضة الأقصى، كان الرنتيسي قد أصبح من القادة المبرزين لحركة حماس، وبدا أنه نجح في بث روح العض على الحق بالأسنان في نفوس أبناء الحركة، حتى أنهم شكّلوا بأجسادهم جدارًا سميكًا حال بين الشرطة الإسرائيلية واعتقاله ذات يوم في ذروة الانتفاضة.

كان القتل غيلة هو النهاية الطبيعية لمن هم مثل الرنتيسي، ولعله هو نفسه كان موقنًا بأن دوره سيأتي يومًا ما لا محالة وهو يودع جثامين رفاقه ممن اغتالهم الاحتلال، الذي لم يخف قائمته من قيادات المقاومة المطلوب تصفيتهم، وكان الرنتيسي واحدًا من الوجوه الخمسة الأولى فيها، ولم يأبه.

كان الرنتيسي قد تعرض لمحاولة اغتيال بحقيبة مفخخة تُركت في خيمته عندما كان مُبعدًا في مرج الزهور، وفي 10 يونيو/حزيران 2003، أغارت طائرات إسرائيلية على سيارة الرنتيسي، فأصيب وأصيب ابنه واستشهد واحد من مرافقيه، لكنه نُقل للمشفى وكُتبت له النجاة، ليدخره القدر لمهمة قيادة حركة حماس بعد اغتيال مؤسسها وأبيها الروحي الشيخ أحمد ياسين في فجر 22 مارس/آذار 2004. لم يطل المقام بالرنتيسي بعد أستاذه، وفي 17 أبريل/نيسان 2004 لحق به بالطريقة نفسها، طائرة إسرائيلية تلقي حمولتها وتختفي.

لم يحمل الرنتيسي في حياته سلاحًا سوى في تلك المرة التي ألقى فيها خطبة تنصيبه لقيادة الحركة، فحمل بندقية الكلاشينكوف المميزة للمقاومة الفلسطينية ولوح بها في وجه الجمع هاتفًا.