التدين الشكلي.. وأزمة المعنى

من المؤسف أننا نعيش زمنا تطغى فيه الشكليات على المضامين والأعراض على الجواهر، والإشكال الأكثر عواصة أنه لم يبق جانب من جوانب الحياة في عالمنا العربي والإسلامي إلا وقد استشرت فيه هذه الظاهرة كما تستشري النار في الهشيم، حتى جانب الدين الذي يرتكز أساسا على مضمون الإنسان وباطنه قد أضحى عبارة عن طقوس وشكليات خالية من الروح والمعنى، ولا أدري من أين تسرب له هذا الداء العضال وكيف؟ ألقوه السيل المظهري الجارف الذي جاء مع الحضارة الغربية والإعلام العالمي الفاتن، حيث صيرا حب الظهور مسعى كل أحد بيد أنه في الحقيقة مزلق كل أحد؟! أم لسوء التلقين الذي يتم به تعليم الدين وتبليغه للناشئة في عالمنا الإسلامي؟

إن المتأمل في التدين الشعبي يجد الطابع السطحي باديا عليه بجلاء، ويلمس اهتمام المسلم بالجانب الشكلي أكثر من اهتمامه بالجانب المضموني، مما يعني أن الناموس الديني لم يمس بعد وجدانه، وإلا فكيف نفسر مثلا من لا تفوته صلاة جماعية في المسجد وهو مضيع لحقوق الناس؟! يغش في معاملاته المالية، يكذب، يسرق، يسيء معاشرة زوجته وذويه.. وغير ذلك من المزالق التي ربما لا يعدها منقصة لتدينه، أو ربما تغافل عنها لأسباب معينة، فالإسلام عند هذه الشريحة الممثلة لأغلبية المسلمين يتلخص في أمرين اثنين:

الأمر الأول: معلومات عن الله ورسله “ص” التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية، ومما لا ريب فيه أن العلم وحده لم يكن يوما دليلا على تدين المرء ولا مغنيا عن عمله، بل إنما يصير دليلا إذا ما قارنه عمل مشحون بالصدق والإخلاص، لذلك نجد الرسول الكريم “ص” يقول: إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان” وقد قال علماء الإسلام: كل علم ليس تحته عمل فهو باطل، والقرآن حدثنا عن قصة إبليس اللعين الذي كان أعلم أهل زمانه لكن علمه لم يجده نفعا حينما استكبر وتعالى عن أمر ربه بالسجود لآدم، وقال معترضا: “أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين” فنال بذلك غضب ربه واستحق لعنته إلى يوم الجزاء، ولو كانت المعلومات وحدها تنفع صاحبها لما استحق ابليس هذه اللعنة الأبدية.

الأمر الثاني: أعمال عبارة عن صدقات يتصدق بها على الله: فحينما يقدم أحدهم على عمل من الأعمال أو طاعة من الطاعات من صلاة أو زكاة أو صيام أو حج.. يعتقد أنه يعطي الله حقه الذي أودعه إياه، وكأن الله تعالى في حاجة لهذا الحق المزعوم، وما يفتؤ أن ينهي من أداء واجبه حتى يشعر براحة تنعش كاهله الذي أضنته التكاليف الشرعية، فيسير مطمئن البال مرتاح الفؤاد، وبقي عليه -سبحانه- أن يعطيه حقه كما أعطاه هو حقه؛ فقد مدحه وخضع له وأثنى عليه وسجد له.. فينحرف المقصد التعبدي من هدف إرضاء الله ونيل مثوبته إلى مجرد التخلص من الواجب واستشعار استحقاق الأجر والثواب.

بعد هذا التشخيص المرعب عن أسباب تمظهر الدين وعدم حلوله إلى الأعماق يبدو بجلاء موضع الداء، فما هو إذن السبيل الأمثل ليلامس الدين الوجدان ويتحرر من الطقوس الشكلية المقتصرة على الظاهر؟ إننا لو تأملنا صياغة القرآن الكريم للتكاليف الشرعية وكيف شيد بناءها في قالب محكم ينساق مع مراميها الرفيعة وكيف جعلها كلها وسيلة لضبط النفس وحملها على الطريق الصحيح لعرفنا حقا كيف نسمح للدين بملامسة أعماقنا، وذلك عبر المراحل التالية:

1- اعمل لنفسك: قد شرع الله كل التكاليف لصالح العباد لا لصالح نفسه، فهو الغني ونحن الفقراء، لذلك يجب على كل منا أن يقوم بسائر الأعمال لنفسه؛ يصلي لنفسه يزكي لنفسه يصوم..، “ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا” مصحوب عملك بالإخلاص التام الذي يكون فيه الفعل والترك لله وحده، لا لأجل فلان أو علان.

 إذا لم تتحرر العبادات من وطء العادات، فإنها تصير جافة لا روح فيها، مما يجعلها ثقيلة على الملتزمين بأدائها، فضلا عن غيرهم ممن تكسبهم بجفائها الممل نفورا بليغا

2- استحضر الغاية من كل شعيرة: إن طبيعة التكاليف الشرعية تنبئ على أنها -قبل أن تكون غاية في نفسها- فإنها وسيلة إلى غاية؛ فيقول الله تعالى: “وأقم الصلاة لذكري” ويقول: “واستعينوا بالصبر والصلاة” فغايات القرآن تجدها في الآيات التي بعد “لعل”، فمن ذلك:
* الشكر المقتضي تفعيل نعم الله على العبد: “لَعَلَكُمْ تَشْكُرُونَ“.
* الهداية: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ“.

* التقوى: “لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ“.

* التعقل: “لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ“.

* التفكر: “لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ

* الفلاح: “لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ“.

* الرحمة: “لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ“.
ورغم تعدد هذه الغايات في صورتها إلا أنها غاية واحدة في جوهرها، هي ضبط النفس وحملها على الطريق الصحيح، ما عبر عنه الرسول الكريم بجهاد النفس.

3- حرر عباداتك من سيطرة العادات: إن مما يفقد الشيء روحه وطعمه طول العهد به، فربما يكون الشيء ذا بال ونفاسة لكنك تجد من حوله لا يبالون به، لأن طول عهدهم به أفقدهم استشعار قيمته، وكذلك الأمر بالنسبة للعبادات إذا لم تتحرر من وطء العادات، فإنها تصير جافة لا روح فيها، مما يجعلها ثقيلة على الملتزمين بأدائها، فضلا عن غيرهم ممن تكسبهم بجفائها الممل نفورا بليغا.

هذا ومن كان ديدن تعبده ما ذكرت فإنه يرسم طريقا واضحا لهذا الدين يلمس من خلاله وجدانه، ليصنع منه بطلا من أولئك الأبطال الذين سطر التاريخ مجدهم بأقلامه الذهبية، الذين أوصلوا الأمة إلى ما كانت عليه عهد أوجها، وما زالت مختلفاتهم الفكرية والعلمية والإصلاحية مفخرة الآمة إلى الآن.