احسان الفقيه : نقض عرى الإسلام من تبسم في وجه ظالم

احسان الفقيه

يقرر الثوري أن من تبسم في وجه ظالم أو أخذ من عطائه فقد نقض عرى الإسلام وكتب من جملة أعوان الظلمة! ويبدو أن هذا المنحى كان متعارفا عليه لدى العلماء العاملين، فعن علي بن الصباح قال: أتيت عبد الله بن داود فسألته عن سُكنى بغداد (دار الخلافة) فقال: لا بأس. قلت: فإن سفيان الثوري كان لا يدخلها. فقال: سفيان يكره جوار القوم وقربهم. قلت: فابن المبارك؟ قال: كان كلما دخلها، تصدق بدينار! فعاصمة السلطان ومحل إقامته أدعى للافتتان، ولا يجوز الإقامة بها ومجاورتهم إلا على وجه الاضطرار، وهو ما عبر عنه بشر بن الحارث بالقول: بغداد ضيقة على المتقين؛ وما ينبغي لمؤمن أن يقيم بها. فلما قيل له: هذا أحمد بن حنبل، فماذا يقول؟ قال: كان يقول دعتنا الضرورة إلى المقام بها، كما دفعت الضرورة المضطر إلى أكل الميتة!! ولا شك أن كثيرا من الناس كانوا يحثون الثوري على الاتصال بالملوك والأمراء، غير أنه كان يجيبهم في حزم: «إني لألقى الرجل (من أهل السلطة) أبغضه، فيقول لي: كيف أصبحت؟ فيلين له قلبي. فكيف بمن أكل ثريدهم، ووطئ بساطهم»؟! وحين طلب إليه عبد الله بن المبارك ذلك، أجاب الثوري: أخشى أن يسألني الله عن مقامي ما قلت فيه؟ فقيل له: تقول وتتحفظ! فسخر قائلا: تأمرونني أن أسبح في البحر ولا تبتل ثيابي!! على أنه ما كان مقاطعا لهم خشية أذاهم، وإنما خاف على نفسه أن يميلوا عليه بدنياهم، ثم لا يرى لهم سيئاتهم سيئة بعد ذلك! وحين تولى شريك قضاء الكوفة متذرعا بأنه لا بد للناس من قاض، أجابه سفيان على الفور: يا أبا عبد الله! لا بد للناس من شرطي!! وقد عاصر الثوري خلافة كل من أبي جعفر المنصور، والمهدي: فأما الأول فما استطاع إليه سبيلا، فأصدر أمرا بصلبه، إلا أنه (المنصور) مات قبل أن يدخل مكة! وأما الآخر، فحاول أن يفيد من سلطة الثوري في المجتمع، فأرسل في طلبه ونزع خاتم الخلافة من إصبعه ورمى به إليه قائلا: يا أبا عبد الله، هذا خاتمي فاعمل به في هذه الأمة بالكتاب والسنة! فلما استأمنه على نفسه قال له: لا تبعث إلى حتى آتيك، ولا تعطني شيئا حتى أسألك. فغضب المهدي وهم أن يفتك به لولا أن ذكره كاتبه بأنه قد أمنه! ولما خرج من عنده حف به أصحابه، فقالوا: ما منعك يا أبا عبد الله، وقد أمرك أن تعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة؟! فاستصغر عقولهم، وخرج إلى البصرة هاربا. فقد أدرك ببصيرته الفذة أن من أوشك أن يهم به بسبب كلمة عفوية، لا يرجى منه الاستجابة إلى ما يحب الثوري من سيادة كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم.

ومرة أخرى قال له المهدي: يا أبا عبد الله! اصحبني حتى أسير فيكم سيرة العُمرين، فقال له: أما وهؤلاء جلساؤك فلا. ثم سأله: كم أنفقت في حجك؟ فقال المهدي: لا أدري؛ فقال: لكن عمر بن الخطاب يدري، أنفق في حجه ستة عشر دينارا فاستكثرها!!